بدأنا نسمع بالتكنولوجيا المالية منذ منتصف القرن التاسع عشر، عندما تم مد الكابل البحري عبر المحيط الأطلسي رابطا شرقه بغربه، وبالتالي ربط عالم المال بعواصم المال في تلك الفترة. استمرت هذه الطفرة بتفاوت قوتها ليومنا هذا، وعليه أصبحت التكنولوجيا المالية تنتقل من جيل إلى آخر منطلقة من الجيل الأول إلى ما نراه الآن من الجيل الخامس خلال 170 عاما من التطور المستمر. فمن هو الطرف القوي الذي تبناها وكان المحرك خلفها لتتألق في القرن الـ 21، وكيف ستستفيد مجتمعاتنا من هذا التطور وتسخره لخدمتها؟
دخلت التكنولوجيا المالية من أوسع الأبواب، وفرضت نفسها بطريقة سلسة ولبقه على المجتمعات من خلال أدوات كان أقواها جهاز الصراف الآلي في سبعينات القرن الماضي، والآن الهاتف الذكي وتطور استعماله. نعم، ظهور تلك الأجهزة كان المحرك لاستقدام الطلب عليها ولكن الأهم من ذلك كان نشوء البيئة المنظمة لهذا التطور أو ما يسمى ecosystem والذي يضمنه تبني الحكومات لمتطلبات البنية التحتية للتكنولوجيا المالية وتهيئة الاقتصاد من خلال تشجيع استثمارات مباشرة من القطاع الخاص واستثمار عام بالتشريعات الداعمة لحضانة الأدوات الجديدة. نرى على سبيل المثال تفاعل البنوك المركزية مع اكتشاف البطاقات الذكية التي أعطت مرونة بالتعامل مع الأموال من خلال الصرافات الآلية… الخ. والآن نحن نسمع اعتماد التوقيع الإلكتروني في المعاملات، مما عزز الانتقال إلى الأرشفة الإلكترونية، ومن هناك إلى نظام مدفوعات إلكتروني وتستمر كرة الثلج لتغطي مفاصل الحياة بجميع مكوناتها وتفتح الباب للريادة والتميز.
ماذا حصل عندنا في فلسطين وأين نحن من استغلال هذه الفرصة الذهبية؟ اليوم في فلسطين، نحن نتكلم عن التكنولوجيا المالية في مجال المدفوعات كونها التحدي الأكبر أمام أزمة شحن النقد. فالمستهلكون لا يشعرون بتكلفة النقد والتي تبدأ من الإيداعات اليومية في البنوك مرورا بتخزينها لأشهر طويلة لحين شحنها، والتي تسببت برفع تكلفة الشيقل في ميزانيات البنوك بكلا الاتجاهين لأكثر من أربعة أضعاف مثيلتها ببلد العملة، مما نتج عنه زيادة مطردة بنسب السيولة التي تجاوزت 10% من مجمل ودائع الشيقل وبالتالي أثّر الأمر سلبا على التوسع بالإقراض لعملة تستحوذ على أكثر من 85% من المعاملات التجارية اليومية. الحل في متناول يدنا… التكنولوجيا المالية والتحول من العملة النقدية إلى الرقمية.
أن تبني الحكومة وبخطوات عملية -كما أسلفنا- هو المحرك لنجاحنا. هذا يتطلب دراسة تشريعات ملائمة ورفعها لسنها كقانون أو تبنيها كإجراء ضمن منظومة قوانين حالية مساندة. نحن نطالب بتظافر الجهود بين المنظمين (سلطة النقد وهيئة سوق رأس المال) والحكومة، سيما وأنهم المكون لاستراتيجية الشمول المالي بالإضافة إلى المنظومة التنفيذية بالدولة ممثلة بالحكومة التي اعتمدت المدفوعات الإلكترونية بقرار مجلسها ولكن هذا ليس كافيا. نحن بحاجة لفريق من الحكومة والمنظمين لاعتماد ورقة متطلبات نجاح التكنولوجيا المالية في فلسطين والبدء بالتحرك لتشكيل أولويات التوصيات مثل: إنهاء اللغط بخصوص اعتماد التوقيع الإلكتروني واعتماد صورة السند كبينة "الأرشفة الإلكترونية"، السماح للمؤسسات المالية المرخصة بالاطلاع على السجل المدني للتحقق من الهوية الشخصية، البناء على وتوسيع مفهوم ما تم إنجازه بخصوص فتح الأم حسابا لقاصر، وعليه التعامل مع المحافظ الرقمية، استثناء حسابات الضمانات لشركات الدفع كجزء من أموال الشركات ولكن كضمان لأموال المستخدمين، إنهاء اعتماد المفتاح الوطني لربط نقاط البيع بالبنوك بدل اقتصارها على الصرافات الآلية، إنهاء المقاصة الإلكترونية، استثمار خدمات مؤسسة ضمان الودائع في شركات المدفوعات الإلكترونية، وربط المحافظ الرقمية بالحسابات البنكية، وأيضا إعطاء مساحة للمستثمرين بالمحافظ الرقمية بتوسيع السوق "الشمول المالي" مع البنوك بدل السماح للبنوك بمنافستها وهي التي تكمل عملهم ولا تنافسهم.