الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

معجم كارل بوبر (35/3)*: المعرفة الموضوعية /محتوى النظرية

ترجمة : سعيد بوخليط

2020-02-26 01:02:17 PM
معجم كارل بوبر (35/3)*: المعرفة الموضوعية /محتوى النظرية
كارل بوبر

تقديم: 

عندما صادفت، منذ عقدين، كتاب الأستاذة الفرنسية روني بوفريس، الصادر حديثا آنذاك. توخيت بداية، إنجاز مقاربة تلخيصية تعريفية للعمل باعتباره عنوانا جديدا على  رفوف المكتبات. لكن بين طيات ذلك، تبين لي أن كتاب: العقلانية النقدية عند كارل بوبر ثم السيرة العلمية لصاحبته، ينطويان على قيمة معرفية كبيرة. لذلك، من الأمانة العلمية والتاريخية إن صح هذا التأكيد إعادة كتابته باللغة العربية نظرا لي: 

*اشتغلت روني بوفريس؛ من بين أشياء أخرى، على نظريات كارل بوبر. وترجمت له أعمالا من الإنجليزية إلى الفرنسية؛لاسيما سيرته الذاتية. كما أن بوبر نفـسه؛ أوكل لها مراجعة الترجمة الفرنسية لعمله الذائع الصيت بؤس التاريخانية.

*اعتبرت روني بوفريس عملها هذا،تقديما عاما لمعجم بوبر المفهومي. ساعية بذلك، إلى جرد ألفبائي للمصطلحات والمفاهيم التي وظفها بوبر، قصد صياغة مشروعه. لقد رصدت وفق تعريفات سريعة لكنها دقيقة وعميقة؛ أهم المفاهيم سواء تلك التي نحتها بوبر،أو توخى في إطارها، على العكس من ذلك، مناقشة أصحابها وإبداء رأيه حولها: العقلانية النقدية/ التحقق/ المعرفة الموضوعية /المحتوى/ النظريات العلمية / تحديد /الديمقراطية / المجتمع المنفتح/ مقولة الأساس/ قابلية التكذيب/ قابلية التزييف والتفنيد/ الرائزية /التاريخانية / العقل و اللغة / اللاوعي/ الاستقراء / الوسائلية /الليبرالية / الماركسية/ الميتافيزيقا / العوالم الثلاث / المجتمع المنغلق /الوضعية/ القابلية / النسبية / الكليانية والطوباوية / التوتاليتارية…

خطاطة مفهومية، تعكس البرنامج النظري والمنهجي الذي خطه بوبر لنفسه. وقد توزع بين: منهجية العلوم؛ فلسفة المعرفة العامة؛ البيولوجيا؛ علم النفس؛ العلوم الاجتماعية؛ تأويلات الفيزياء الحديثة؛ تاريخ الفلسفة؛ فلسفة الأخلاق والسياسة؛ نظرية العلوم الاجتماعية.

أرضية فكرية وعريضة، يتجادل ضمنها مع: أفلاطون وسقراط وهيغل وماركس وفتجنشتاين وهيوم وكانط… إلخ. منحازا أو مختلفا، لكن بمعنى يتجاوز حدي منطق الميتافيزيقا الغربية الثنائي القيمة: صادق أو كاذب، ولا يوجد احتمال ثالث. لأن بوبر يؤكد نصيب الحقيقة من الخطأ. السمة الفكرية التي تهمه؛ أكثر من اليقين والاعتقاد المطلقين.

هكذا ظل بوبر رافضا باستمرار، لكل أنواع الطوباويات والإطارات الشمولية المنغلقة؛ بل والأفكار الرومانسية المنتهية حتما إلى العقيدة الجامدة والدوغماطيقية؛ لأنها تستند بدءا وانتهاء على المرجعية الأحادية.

 لم يكن من باب الصدفة إذن، أن يخرج بوبر آخر أعماله تحت عنوان مثير: "أسطورة الإطار، في دفاع عن العلم والعقلانية". يقول بوبر في تأويل لما أشرت إليه: (( وعلى الرغم من أنني معجب بالتقاليد وعلى وعي بأهميتها. فإنني في الوقت ذاته أكاد أكون مناصرا أصوليا للا-أصولية: إنني أستمسك بأن الأصولية هي الأجل المحتوم للمعرفة، مادام نمو المعرفة يعتمد بالكلية على وجود الاختلاف. وكما نسلم جميعا، الاختلاف في الرأي قد يؤدي إلى النزاع، بل وإلى العنف. وأرى هذا أمرا بالغ السوء حقا، لأنني أستفظع العنف، غير أن الاختلاف في الرأي قد يؤدي أيضا إلى النقاش، وإلى الحجة وإلى النقد المتبادل. وإني أرى هذه الأمور ذات أهمية قصوى، وأزعم أن أوسع خطوة نحو عالم أفضل وأكثر أمنا وسلاما، قد قطعت حين وجدت حروب السيف والرمح لأول مرة من يضطلع بها، وفيما بعد حين حلت محلها في بعض الأحيان حرب الكلمات )) ( أسطورة الإطار: في دفاع عن العلم والعقلانية . ترجمة يمنى طريف الخولي. سلسلة عالم المعرفة. أبريل- مايو 2003)

ولكي يتم تسليط الضوء بقوة، على الأفق المتطور لهذا الفكر الإنساني في جوهره، أسرعت بوفريس غير ممتثلة لترتيبها الألفبائي؛ نحو الصفة التي عشق بوبر، أن يسم بها اجتهاداته الفكرية والمنهجية. أقصد تصنيف: العقلانية النقدية .

فما هي إذن أبرز ملامح وتجليات هذه الفلسفة؟ ثم  كيف عملت بوفريس على توظيف ذلك حين مقاربتها مشروع بوبر؟ لاشك، أن الإجابة عن بعض هذه الأسئلة تخول من جهة أخرى؛ إثارة انتباه القارئ نحو أهم أطروحات هذا العمل، والتي سنقف على مضامينها عبر سلسلة هذه الحلقات.  

معرفة موضوعية و’’إبستمولوجيا دون ذات عارفة’’:

 يدعم بوبر موضوعية المعرفة. يبرر هذا الرأي وجهين :

يدل من جهة، على أن العلم يتكلم عن العالم الواقعي، من حسن إلى أحسن، إذن هذا العالم يوجد وليس مجرد تصور. لذلك، وقد تجاوز كل مثالية يعتبر بوبر قصدا واقعيا.

 ويدل من جهة ثانية، على أن المعرفة منفصلة عن الذات، وبأن حقيقتها موضوعية ضمن حقائق الكون الأخرى.

 تفترض هذه المفاهيم من بين نتائج أخرى، صراعا يقوم مباشرة عند مستوى تأويلات الفيزياء المعاصرة، والتي هيمنت عليها الذاتية لفترة طويلة من هذا القرن.

التوهم بكون المعرفة واقعة ذاتية هو بالأحرى أكثر إغواء، بحيث إذا لم نستسغ الفكرة الأفلاطونية التي مفادها أننا لسنا سوى بصدد تأمل سماء معقولة، سيبدو طبيعيا طرح أن المعرفة ظاهرة سيكولوجية، حالة تحدث لدى الإنسان نتيجة علاقته مع العالم. وحول هذه الفرضية تقوم مختلف الابستمولوجيات التجريبية التي تجعل من المعرفة صيغة اعتقاد سلبي عند الذات، بل وأيضا الابستمولوجيات العقلانية التي تصورت المعرفة، إما بناء فكريا – من ديكارت إلى جان براور– أو خلاصة ذهنية كما الشأن عند بياجي مثلا.

مع ذلك، يرتكز مفهوم كهذا، حسب بوبر على التباس: خلط بين المعرفة الذاتية (تتأتى فعلا من اعتقاداتنا و انتظاراتنا ثم استعداداتنا للتأثير) ثم المعرفة الموضوعية، القائمة على نظريات تشكلت لسانيا ومفهومة من طرف الجميع، تؤلفها مقولات ترتبط بعلاقات محض منطقية، وتُنتقد الواحدة منها باسم الأخرى. والحال،إن أمكن الثانية تأكيد الأولى، فالأولى لا يمكنها في أية حالة تأكيد الثانية: "مهما بلغت قوة الإحساس باليقين، فلا يمكنه قط إثبات مقولة. مثلما لا يمكن تبرير الأخيرة، بناء على القناعة الباطنية لكارل بوبر بحقيقتها. وسيكون كل جواب آخر مخالفا لفكرة الموضوعية العلمية" (منطق الاكتشاف العلمي، ص 43).

 يستعيد بوبر هنا، بخصوص العلوم التجريبية، المعركة التي حمل لواءها جوتلوب فريجه في ميدان الرياضيات – المنطقية، قصد تخليص الصلاحية المنطقية من كل صلة بالحدس، وعوض مفهوم الاعتقاد أو البداهة بمفهوم الضبط البين – ذاتي: "لم يعد قط بوسع شخص بعد فريجه، تصور إثبات استدلال منطقي أو الدفاع عنه ضد الشكوك، بمجرد توثيقه على الهامش، مايلي: بروتوكول: بما أني اختبرتُ اليوم منظومة الاستدلالات تلك، فقد انتابني شعور اعتقادي حاد". أيضا، في الفيزياء، لا توجد سوى طريقة لتأمين صحة سلسلة براهين: "بإعطائها شكلا، نتمكن من خلاله إخضاعها بسهولة  للتجارب". تفترض الممارسة العلمية، اختيار رجل العلم نظرية على ضوء معايير عقلانية وليس انطلاقا من إيمانه بها "لا أومن بالاعتقاد" يقر بوبر.

 بالتأكيد، تصور كهذا للعمل العلمي غير ممكن إلا بالنسبة للذي اكتشف بأن المسار الجوهري للمعرفة يرتكز على انتقاد النظريات التي صيغت موضوعيا: الاستقرائي الذي يؤمن بالتراكم الآلي الملاحظات، لا يمكنه إلا الخلط بين الموضوعي والذاتي، ثم المسار العلمي والاعتقادات الإحيائية.

يقترب جدا، التوظيف البوبري لمفاهيم "الموضوعي" و"الذاتي"، من كانط: "الحجر الأساس المعتمد عليه كي نحسم في كون الاعتقاد بمثابة يقين (موضوعي) أو مجرد اقتناع (ذاتي)، يكمن إذن خارجيا، يكتب كانط، مرتكزا على إمكانية بث اعتقاده، وجعله صحيحا بالنسبة لعقل كل إنسان" (كانط نقد العقل الخالص، ص: 551). لأنه : "على الأقل، نفترض حينئذ ، بأن أصل توافق كل الأحكام، رغم تعدد الذوات، ينهض على مبدأ مشترك. أريد القول، الموضوع الذي بحسبه، تتفق كل الذوات بكيفية يتم معها تأكيد حقيقة الحُكم".

أيضا، تعني المعرفة الموضوعية عند بوبر، معرفة قابلة للإبلاغ، وصحيحة بين الذوات. غير أن قابلية التزييف لدى بوبر تفصله عن كانط: ما يؤكد السعي نحو صحة النظريات العلمية، اختبارها من طرف الذوات، انطلاقا من معايير لا شخصية، مما يفسر كذلك قابليتها لأن تراجع ثانية. قابلية الخطأ نتيجة طبيعية للموضوعية.

ليس فقط العلم ظاهرة غير سيكولوجية، وبالتأكيد ليس الآن بالظاهرة الفردية، بل يفترض الجماعية. يفند بوبر مثل هيرمان شيفلر،"أسطورة العالِم المتجرد والموضوعي". يعتبر خطأ جوهريا الاعتقاد بأن رجل العلم يتحدد بعدم التفاته إلى الأحكام قبلية : كل فرد، متحيزا وعاطفيا. يصعب تجنبه بل يلعب دورا أساسيا في الإبداع. لا ينبغي التطلع نحو تسوية الخيال، أو التغاضي عن تباينات المنهج وكذا اهتمامات رجالات العلم. كيف يمكن إذن للعلم التخلص من تحيز وجهات نظر مؤسسيه؟ انطلاقا من اشتغال جماعي على المنهجية النقدية.

كل واحد يصيغ وجهة نظره في القضايا آخذا بعين الاعتبار انتقادات الآخرين، سياق سيمكننا من بلوغ هذه الكونية التي تشكل سمة للموضوعية.

يميز بوبر العلم بمنهجيته وليس بنتائجه، فيذهب غاية تأكيده على أن روبنسون كروزو في جزيرته، لا يمكنه إدراك شيء اسمه العلم، نظرا لانعدام تواصله مع الآخر وبالنقد: إذا وجد نظرية، بدت له صحيحة، فسيتكلم حتما عن "معرفة مستوحاة" وليس علم عقلاني.

المــحـــتــــــوى:

يتمثل المحتوى المنطقي لنظرية، مختلف نتائجها غير المتسمة بالحشو. يسمي بوبر محتوى إخباريا لنظرية منسجمة، مجموع المقولات المتناقضة معها. فبقدر ما تستبعد  النظرية حالة أشياء ممكنة، تصير أقل احتمالا، وبالقطع إخبارية.

يشكل تقاطع المحتوى الإخباري لنظرية مع مجموع "مقولاتها القاعدية" المحتوى التجريبي أو نموذج "جل التزييف الضمني" للنظرية. إضافة إلى ذلك، ينعت بوبر محتوى نظرية (T) مجموع أسئلة  (a)(q)، إذا كانت (a) تنتمي إلى المحتوى الإخباري لـ (T).

*المصدر:

Renée Bouveresse :le rationalisme critique de karl popper ;ellipses ;2000.