الحدث- آيات يغمور
باتت معادلة "معاداة الصهيونية معاداة للسامية" مسلّمًا بها، استنادًا على فرضية فرضت نفسها معتبرة أن الصهيونية الممثل الوحيد والجامع ليهود العالم، مع ضرورة إعطائهم حق تقرير مصيرهم، مفترضة افتراضًا آخر بأن تقرير المصير يجب أن يتخذ شكل دولة لم توضح أو تعلن لها الصهيونية يومًا حدودًا، فهي آخذة بالتوسع على حساب حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم على أرضهم التي تجزأت وباتت وفق خطة ترامب للسلام الأخيرة أشلاءً وأي اعتراضٍ على تلك الخطة أو على التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية هو ممارسة لعداء السامية ويعبر عن كراهية اليهود كونهم يهودًا!
أثار المحاضر د.رائف ازريق المتخصص بالفلسفة السياسية سؤالًا مهمًا حول إمكانية النضال في ظل اعتبار كل ما هو مضاد للصهيونية وحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وكل من يساندهم معادٍ للسامية! طُرح هذا التساؤل في محاضرة نظمها المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"، لدراسة توظيف تعريف اللاسامية لخدمة السياسة وارتباط ممارسات التعريف السياسية بالحركة الصهيونية.
هذا الشعار بات تشريعًا إيمانيًا للعديد من المؤسسات اليهودية التي تصفق للصهيونية وتدعم نشطاتها مؤيدة لإسرائيل من كل المحافل وتحديدًا في الحرم الجامعي في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد أن هددها ترامب بوقف التمويل عنها ما لم تمنع كافة النشاطات المعارضة أو المنتقدة لإسرائيل كدولة عنصرية على اعتبار أي نشاط أو انتقاد لإسرائيل يأتي من باب معاداة السامية وتعبيرًا عن الكره لليهود. الأمر الذي جعل تأييد الفلسطينيين مسألة تعرض من وراءها لمساءلات قانونية! فباعتراضهم على عنصرية إسرائيل يوصمون بمعاداة السامية على اعتبار أيضًا أن معاداة السامية أمر حصري على اليهود الذين باتت الصهيونية تحمل شعارهم بتفرّد مطلق!
يخبرنا المحاضر د.رائد ازريق المحاضر حاليًا في كلية أونو في القانون، أن المحاضرة ليست بصدد تناول اللاسامية بخصوصيتها التي ارتبطت سياسيا وتاريخيًا بالكراهية نحو اليهود والتمييز ضدهم كونهم يهودًا، لكن ومن أجل فهم معمق لآلية توظيف المصطلح في القضية الفلسطينية لصالح إسرائيل يتطلب الرجوع إلى ظروف نشأة معاداة السامية حيث كانت موازين القوى مختلفة، في إشارة منه إلى الضعف الذي كان اليهود يعانون منه في أوروبا التي كانت مهووسة بالقوميات وتكوين الدول.
ومؤخرًا في السنوات الأخيرة قام التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة، بتبني تعريفٍ لـ "اللاسامية" وهو غير ملزم قانونيا: "معاداة السامية هي تصور معين لليهود، والتي يمكن التعبير عنها على أنها كراهية لليهود. المظاهر الخطابية والجسدية لمعاداة السامية موجهة نحو الأفراد اليهود أو غير اليهود و/أو ممتلكاتهم، نحو مؤسسات المجتمع اليهودي والمرافق الدينية". وكان هذا التعريف فرعًا من تعريف تم إنشاؤه عام 2005 من قِبل مركز مراقبة العنصرية وكره الأجانب التابع للاتحاد الأوروبي، ثم هيئة مكافحة العنصرية الرائدة في الاتحاد الأوروبي. ووفقًا لـ المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" -وهو مركز بحثي مستقل متخصص بالشأن الإسرائيلي- فإن هدف اللاسامية هو إظهار اليهود كعنصر منفرد وغريب وله مميزات خاصة به دون سواه من الشعوب الأخرى في العالم. وتم توظيف اللاسامية كمفهوم لأهداف سياسية من قبل الصهيونية، من أجل إسكات أي صوت انتقادي للصهيونية وممارساتها بحق الشعب الفلسطيني، عبر تعميمه حيناً وتحريفه أحياناً أخرى. وتم استخدام المفهوم للابتزاز في السياقات السياسية والأكاديمية ما أخرج المفهوم عن سياقه وجعله اشكالياً ومثيراً للجدل.
تأتي أهمية هذه المحاضرة في ظل تبني ترامب لخطة السلام التي تهدف بالأساس للتوسع الاستيطاني وإنهاء القضية الفلسطينية، ومنذ اوسلو هناك محاولة لحل الصراع بشكل غير منصف لفلسطين وهي وفقًا لـ د. ازريق محاولات لإدارة الصراع دون حله، والآن إنهائه، فمنذ الثلاث سنوات الأخيرة مع ترأس ترامب للولايات المتحدة هناك إنهاء واضح للصراع، يذكر د. ازريق أن أبرز معالمها: نقل السفارة للقدس والحديث عن الجولان باعتبارها أراض إسرائيلية ووقف المساعدات للأونروا وإعطاء الضوء الأخضر للتوسع الاستيطاني في غزة.
وتأتي أهمية الحديث عن اللاسامية لإنهاء حصريتها على اليهود، فيشير د.ازريق إلى وجود مصلحة فلسطينية خاصة ولشعوب العالم التي عانت من العنصرية. وهناك أهمية ثالثة تأتي لتوضيح الخلط المتعمد بين اللاسامية وبين انتقاد الصهيونية باعتبار إسرائيل دولة عنصرية. ويؤكد د.ازريق على ضرورة النظر لقضية اللاسامية بأنها قائمة بذاتها لكن هناك ارتباط بين ارتفاع الحديث عن اللاسامية وتركيز اليهود على الحديث عنها بالهجوم على قضية فلسطين، فتصبح المطالبة بحل القضية مطلبًا لاساميًّا وهو خلط متعمد يلقي بأصابع الاتهام نحو أي مؤيد لفلسطين أو أي منتقد لإسرائيل، وهناك فرق شاسع بين انتقاد إسرائيل كدولة يهودية وانتقادها كونها دولة عنصرية تمارس اعتداءات صارخة وتتعدى على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
هناك تسييس في الحديث عن اللاسامية وبالتالي يجب رؤية السياق التاريخي الذي نتحدث فيه. يعطينا د.ازريق مقارنة بين اللاسامية بعد الفضيحة السياسية المتمثلة بالضابط درايفوس 1894 – 1906، وبين توظيف اللاسامية بعد قانون القومية ووفاة حل الدولتين دون انتهاء مراسم الدفن والحديث العلني عن ضم الضفة، فلا يمكن الحديث عن اللاسامية دون السياق الذي تدور فيه.
يتابع د.ازريق حديثه عن اللاسامية باعتبارها أساسًا ظاهرة أوروبية، والصهيونية ظاهرة يهودية بدأت كرد فعل على اللاسامية في أوروبا وانتهت في فلسطين فهناك دائرتي تراوح بين أوروبا وفلسطين. لكن الصهيونية الحديثة، حركة تستند إلى مفهوم أن اليهود شعب وأمة، وبالتالي لهم حق تقرير المصير في دولة خاصة بهم. وتكمن الإشكالية الكبرى في تعريف اللاسامية الذي يتضمن أيضًا حق تقرير المصير في أن الصهيونية لم تضع حدودًا للدولة اليهودية.
وبِتَتَبُّع مساعي اليمين الإسرائيلي بمساعدة اليمين الأمريكي باحتكار الصهيونية باتت هناك معادلة أخرى مسلم بها وهي: كل من هو لا يميني هو لا صهيوني. وفي ذلك وفقًا لـ د.ازريق اسقاط للمسافة بين الصهيونية واليهود، وتم تحقيق ذلك باستعراض الصهيونية كنموذج وحيد شرعي لمقاومة اللاسامية بحيث تصبح معارضة الصهيونية لاسامية، ومن الانتقادات التي واجهت تعريف اللاسامية أنه يفترض استحالة إزالة العنصرية بين الشعوب، على اعتبار الشعوب مجرد قبائل ولا مستقبل لهم، وبالتالي الصهيونية هي معارضة للحركات الأوروبية ليست من حيث المبدأ فكل ما أرادته الصهيونية هي أن تصبح قبيلة بذاتها فهي بذلك لا متناقضة في حد ذاتها ولا تعارض التمييز بل تود أن تصبح هي الأخرى فريدة ومميزة فهي مجرد رد فعل يتماشى مع الشروط الأوروبية في ذلك الحين. بينما وفي الوقت الحالي ينوه ازريق إلى ضرورة الانتباه إلى وجود فرق بين رفض اللاسامية في أوروبا وبين حل القضية الفلسطينينية، وهي نقطة تستدعي التوقف.
لم يكن النقاش يومًا محسومًا ضمنًا فيما لو كان تقرير المصير على شكل دولة أو على شكل أقل من دولة، وبرأيه يوضح د.ازريق أنه فيما لو قبلنا أن الصهيونية من مبادئها حق تقرير المصير لليهود فذلك لا يعني ضرورةً أن الحل يأتي من مكان معين أو عن طريق حل الدولتين وليس بالضرورة عبر دولة ثنائية القومية، ولكن تم حسم النقاش لصالح دولة قومية إثنية وبالتالي النقاش الدائر حاليًا هو حول كل او جزء من فلسطين.
إدراك الحقائق وكيفية فهمها أمر في غاية الأهمية، فملاحظة ارتفاع نسب الهجوم على اليهود وممتلكاتهم لا يمكن قراءته دون أن ننتبه إلى أن هناك محاربة لفلسطين وينبغي فهم كيف ترتبط الأولى بالثانية! وإذا تجاوزنا السياق السياسي بعيدًا عن سؤال من يستفيد يمكننا أن نتحدث عن التعريف ولكن الأهم كيفية توظيفه في السياسة العالمية حيث يجب أيضًا العمل على فهم التعريف وكيفية الاستثمار السياسي في هذا التعريف. وتتضمن بعض من تعريفات اللاسامية الأساسية عددًا من الإشكاليات الخطيرة:
ويقترح د.ازريق ضرورة وجود مشروع بديل لتعريف اللاسامية بما يتناسب مع حقوق الإنسان، فأي تعريف يجب أن يبدأ بكونه شكل من أشكال العنصرية ضد الأقليات العرقية والدينية وهي نقطة البداية التي يجب أن يبدأ منها التعريف. فهي بالأساس ناتجة عن الهوس الأوروبي بالقوميات ومن المهم وضع هذه الظاهرة كظاهرة تاريخية تظهر وتخبو كغيرها. وأي نضال ضدها يجب أن يكون متناسبًا معها وبالتالي من المهم بمكان الإشارة إلى أن نضال اللاسامية يجب أن يكون عالمي لمنع حصره واستغلاله من الصهيونية. كما ويتوجب أن يرتبط التعريف بحقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة لأن منظومة حقوق الإنسان تقوم على التوازنات انطلاقًا من محاربة أي مشروع عنصري.
كما وتتضمن وثيقة التعريف بنودًا ذات طابع إشكالي خاص؛ لا شيء في التعريف يشير إلى الكراهية بسبب كونه يهودي. قد يكون هناك كراهية للمستوطنين ليس بصفتهم يهودًا بل لكونهم يسرقون الأرض. يجب طرح سؤال حول دوافع الكره وما الذي يقف وراء سلوك الشخص؟
في النهاية يترك ازريق موازاة اليهود بالصهيونية واحتكار مفهوم واحد للصهيونية لليهود أنفسهم، مؤكدًا على أن هناك حقيقة عارية يجب الحذر منها، فالتعريفات الموجودة موجهة نحو فلسطين والمقاطعة والصهيونية. كما ويترك أيضًا اتهام اليهود بأنهم داعمون لإسرائيل باعتباره نقاشا أمريكيا داخليا ولا فائدة سياسية من الخوض فيه.
ويشير ازريق في النهاية إلى حالات الاعتداء ضد اليهود كونها موجهة من اليمين في العالم. ولا يوجد علاقة أو تناسب صحيح بين من يهاجم اليهود وبين خطة الدفاع. مما يؤشر على أن خطة الدفاع تستهدف دعم الصهيونية كمشروع استيطاني.
لفهم خطورة تعريف اللاسامية يجب التأكيد على حقيقة أن إسرائيل ليست دولة بل حركة حدودها دائمة التوسع، وبذلك تصبح معارضة التوسع كمعارضة حق إسرائيل بالوجود وبالتالي نوع من اللاسامية.
في النهاية يختتم د.ازريق محاضرته بذات السؤال، كيف يمكن أن نناضل دون أن نوصم بمعاداة السامية، بينما تواجه طرق النضال التكسير هناك معيقات عديدة وتضييق لمساحات النضال ولشرعيته. ولكن في نهاية الأمر لا يجوز ولوج هذا الموضوع بأن اللاسامية غير موجودة ولكن يجب التركيز على نفي حق الفلسطينيين بالوجود. ويؤكد ازريق على أن وضع الظاهرة في ظل علاقات القوى وضمن المسعى العالمي للتخلص من هذه الظاهرة عندها يمكن أن يقود الفلسطينيون النضال كونهم أكثر الناس تضررا من اللاسامية مع وقوع الكارثة فوق رؤوسهم.