من ماريا إلى ألبير
12 أغسطس 1948
هذا ما ارتأيتُ ضرورة القيام به خلال فترة عطلتي(1)! .يا إلهي، كم أودَ أن تكون قريبا مني وتنصحني! تصور أني تلقيتُ البارحة رسالة من ماريانو ميغيل، سكرتيرة بيكاسو، تلتمس أن أكتب مقالة صغيرة، نداء إلى المتعاطفين مع إسبانيا الجمهورية بهدف تقديم المساعدة إلى اللاجئين. مبادرة تتم باسم اللجنة الإسبانية المسماة: (Comité de ayuda a los refugiados espanolas)، باعتباري منتمية إلى صفوف عضويتها، وينبغي أن تنشره صفحات مجلتهم.
تعلمُ مستوى الهول والتقزز الذي يسكنني نحو هذا النوع من المواقف، مادمتُ لا أعرف كيفية إنجاز ذلك. أسرعتُ إذن إلى أبي، باكية حتى أطلب منه مساعدتي أو بالأحرى تحمله مسؤولية صياغة النداء. غير أن توسلي ذهب سدى، لذلك انكببتُ على الموضوع بنفسي، بعد أن قرأتُ وأعدتُ قراءة المقالات الثلاثة الصادرة سابقا في هذا الإطار بتوقيع بيكاسو، ثم أرملة لوي كومباني جوير(2) وكذا الكاتب كوربوس بارغا(3).
لا أتقن الخطابة، أو التكلم، بل وبشكل أقل أن أكتب. فضلا عن ذلك، لا أمتلك صبرا لمثل هذه المهمات. مع ذلك، استسلمتُ دفعة واحدة، منقادة فقط خلف نداء قلبي، فشرعتُ أكتب على ورقة، ثم أسرعتُ ثانية نحو أبي، الذي وافق في نهاية المطاف كي يهمس لي ببعض الكلمات التي كنتُ في حاجة إليها صغتها بجرأة، وقد اقتصرتُ على تغيير خلاصات المراسلات الفرنسية التي اطلعتُ عليها. لم أستطع الإحاطة بمجمل رأيه في الموضوع، لكني تمنيتُ لو حال بيني وأن أكشف إلى العموم بلاهة مطلقة. لم يكن بوسعي تأخير إرسال هذه التحفة، لذلك بدا مستحيلا انتظار رأيكَ في الموضوع وكذا تقويماتكَ، مع ذلك أحب أن تخبرني بخصوص ما كتبتُ ومدى إفراطه في البلاهة.
سيخلق لكَ هذا عملا إضافيا على مستوى الترجمة، مع اعتقادي أيضا بأنه سيبعث في نفسكَ التسلية.
بالتأكيد، أصبحتُ موضوع عداء للهدوء، والعزلة، والعطل الممتعة.
إن غادر جيرار فيليب وجماعته الصغيرة (4)، فالسيدة نانسي كونار(5)، ما زالت جاثمة هنا، بحيث سقطت فوقي مثل طائر حقيقي من فصيلة طيور الكواسر. امرأة انجليزية، متقدمة في السن، متجعِّدة، طويلة مثل يوم مضجر، نحيفة إلى درجة أنها تبعث على البكاء، طلت وجهها بمساحيق ضدا على الحس السليم، ومرتدية مثل ''ورقة متساقطة'' كساء عثرت عليه في مكان ما داخل مستودع للتحف القديمة، ثم تصفيفة شعرها، كما لو هبت عليه رياح قوية طيلة أيام مصحوبة بأمطار، وقد وضعت على رأسها قبعة نسائية بأهداب عريضة الجوانب مصنوعة من القش الرفيع، ثم غمرت ذراعيها أسورة، تنتسب هذه السيدة لا أعرف لجهاز صحفي، ثم شاعرة بين الفينة والأخرى، صديقة لمارسيل هيراند، و"رفيقة متحمسة للإسبان الجمهوريين".
بليونة، ولطف، لا يفتقدان لشيء من الحزم استدرجتها كي تذهب في نزهة، لكن بما أنها لم تظهر عليها سمات استيعابها خلفية المعنى جيدا، فقد شرحتُ لها ارتباطا بسياق ثان، عبر السيدة بودي، بأني أتيت إلى هنا، كي أستمتع وحيدة بعطلة مريحة. هذه المرة، توضحت الدلالة بكيفية لا لبس معها. بالتالي، لم تتردد، لكن بما أنها زيادة على مختلف ما ذكرتُه أعلاه، "معجبة كثيرا بمواهبي''، فقد بعثت إلي حاليا بمختلف ''الصحفيين'' الذين مروا عندها، وحتى لا أكون أبدا فظَّة، فقد التزمتُ بتقديم نموذج للجميع، بحيث تؤخذ لي "صور" من مختلف الزوايا.
من جهة أخرى، ولكي أستعيد مزاجي حقا، السيئ جدا،غاية أقصى درجات السوء، أعاند كل مساء بخصوص توضيب طموحات اليوم التالي، إن كان ذلك ممكنا، غير أنه يأتي بوضع أكثر إساءة .
آه! نسيتُ أن أخبركَ! لقد اكتشف بول رفيع(6) بسرعة عنواني، وبمساعدة تلك السيدة حصل على رقم هاتفي. تصور…، إذن. لكن، بغض النظر عن كل شيء، يبقى العالم جميلا، فرغم كل هذه التعثرات أجدني بين طيات هدوء، صبر، وعذوبة باسمة حقيقية! بحيث لم يكن في وسعي أبدا، نعم أبدا، الاعتقاد بأني قادرة على ذلك.
أبي على ما يرام. تراجعت درجة حرارته، لكنه يعاني صعوبات كبيرة بخصوص التنفس، ويلزمني القول بأن هذه المدة لم ترمِّم شيئا.
حاليا، أنا مبتهجة. نتيجة تزايد وتيرة الأخبار المتعلقة بكَ، ومع كل رسالة تصلني منكَ، أنغمس أكثر في عالم سعيد، يمسك بي طيلة أيام.
إيقاع حياتي نفسه، غير أنه صار أكثر حيوية منذ الانتهاء من وقائع ''سوء التفاهم البريدية''، بالتالي ها أنتَ ثانية بجانبي. أتكلم معكَ، أقرأ رسالاتكَ وأعيد قراءتها، أشيِّد مشاريع مذهلة وقد انطوى سلفا رأسي الصغير على برنامج يهم فصل الشتاء المقبل، و بوسعي طمأنتكَ بأنه برنامج رائع، بل في غاية الروعة، وقد تصورته سلفا ثم فعلت ذلك مرارا، لا أعرف كم من الوقت. أيضا، بين طيات مشاريعي، تبدو سعيدا وأنت تقابلني بابتسامة… إذن!
أرى بأن ''حفلة'' قادش (العنوان السابق لمسرحية حالة الطوارئ) قد عرفت اختبارات عديدة. أولا، قلتَ لي بأنك أضفتَ إليها مشهدا جديدا، مما أثار خوفي قليلا، أعترف لكَ بهذا الإحساس. ثم، أخبرتني ثانية بأن التعديلات لن تكون كثيرة وأصبح لي في إطارها دور ابنة القاضي (فهل أنا جديرة بذلك، أو بالأحرى الشخصية؟). أعترف بأني كنت تائهة ولا أعرف حاليا سوى التركيز بحيث بدأت سلفا الاشتغال بجدية على شخصية ''فيكتوريا''، حتى أظهر استعدادا إلى حد ما، يوم العرض الأول وأقل انفعالا.
أخيرا، كل ما تفعله، أتبيَّنه رائعا، ما دام يسكنني شعور عميق منذ بداية علاقتي بكَ، مفاده أنكَ شخص لا تصرح قط بحقيقة تتعارض مع قناعتكَ. بالتالي، ما أنتَ عليه، يمثل أقصى تطلعاتي لو أني ولدت رجلا.
بعد هذا، كيف تريدني أن لا أحبكَ؟ ثم مع استيعابي ذلك، وقد تمثلتُ الرؤيا العميقة التي تأتت لي من خلال ذلك، فكيف تريد مني عدم الاستمرار غاية النهاية؟
حبيبي، لقد فكرت كثيرا، وخلصت إلى أن الوقائع التي نعتقدها متناقضة تنزع بنا نحو مساعدتنا على فهم معنى حقيقة الحياة، ومن ثمة، يزداد تقرّب أحدنا من الثاني بكيفية أكثر توطدا.
بداية علاقتي بكَ. كنتُ يافعة جدا، حتى أدرك حقيقة مختلف ما ''نجسده'' وربما اقتضى الوضع الذهاب إلى هناك قصد الإصرار على الحياة، ثم الرجوع ثانية بظمأ نحوكَ لا ينفذ، أنت معناي.
حاليا، ها أنا بالمطلق لكَ. احضني، ولا تتركني قط. سأكتشف نداء رغباتكَ، وسأعمل أيضا على أن أتقاسم معكَ إغواءاتي، مستلهمة منكَ قوة تمكنني من إشباعها. عندما أفكر في الأمر، وأنا بصدد تخيل مستقبلنا، أختنق سعادة تقريبا، ثم تضغط على قلبي رهبة هائلة، ويستحيل حينئذ الإحاطة بكمية السعادة في هذا العالم.
*هوامش :
مصدر الرسالة :
Albert Camus- Maria Casarès :correspondance (1944 -1959) Gallimard ;2017.
(1) تستحضر هنا ماريا كازارس، مضمون مقالة باللغة الإسبانية بتاريخ 12 أغسطس 1948، كتبته بخط يدها على الأوراق الثلاث لهذه الرسالة.
(2) لوي كومباني جوفر (1882 -1940)، محامي وسياسي كتالاني. رئيس منطقة كتالونيا سنة 1934، وقد سجن لإعلانه سيادة كتالونيا داخل الجمهورية الفيدرالية الإسبانية، ثم أطلق سراحه عام 1936. نُفي إلى فرنسا بعد الحرب الأهلية، ثم سُلِّم فيما بعد إلى الديكتاتورية العسكرية لفرانكو ونفذ فيه حكم الإعدام.
(3) أندريس غارسيا دو لابارغا (1887- 1975)، المعروف باسمه المستعار كوربوس بارغا، شاعر وروائي إسباني، ورمز كبير لقضية الجمهورية. انتقل من منفاه في فرنسا، إلى الاستقرار في بيرو منذ سنة 1948 .
(4) جيرار فيليب (1922- 1959)، تلميذ في المعهد المسرحي،عرف أولى أدواره الناجحة من خلال أدائه دور ملاك في مسرحية (sodome et Gomorrhe)لصاحبها جون غيرودو (1948). وعهد إليه ألبير كامو بدور الإمبراطور في مسرحية (كاليغولا) (1945) . صديق لماريا كازارس.
(5) نانسي كونار(1896- 1965)، أديبة انجليزية استقرت في فرنسا منذ 1920 وقريبة من الأوساط الفنية والأدبية المجددة (كانت رفيقة ل أراغون)، وكرست جل حياتها الملتزمة في مناهضة الفاشية والعنصرية.
(6) بول رفيع، صديق لألبير كامو منذ فترة الشباب في الجزائر، وناضل صحبته من أجل تأسيس مسرح العمل (1935) .