"زراوند" زكريا محمد ليس كمثله شعر، لأنه كتاب رسوليٌّ في زمن الكذب، يُمَفْهِمُ الشعرَ بالشعرِ: وجوداً، وسياسةً، وجمالاً، دون التورُّط في سجالات السطح التي استهلكت الثقافة الفلسطينية في العقدين ونصف الأخيرين. ففي مشهد كثر فيه الشعراء وقلَّ فيه الشعر، يبحث كلٌّ عن مكانه بالكتابة الإلكترونية، أو الحبر السائل، إن أحسن قواعد الإملاء... أما زكريا محمد، فينحت مكانته "بالرمح في أعلى الصخرة"، ويخدش "بإظفره علامته". وبـ"لغة بريل" يكتبُ، بعد أن صار العمى وجهة نظر، والبصيرةُ أيديولوجيا، ولا ينسى الدعاء: "رب اجعل عشاءنا حبَّة عتمة، وفطورنا حبَّة نور".
في "زراوند" شعريَّة مسارب، تحدد: للوجود أسئلته الكبرى بتزمين وتمكين متغايرين؛ وللسياسة فواعلها التاريخية بالقُطبة لا بالجرح؛ وللجمال قواعد لياقتهِ وصالة مراياه. وزكريا محمد بارع في التشتيت، ويعترف ساخراً: "سوف أشتتكم وأشتت نفسي"، ويؤكِّد، جادَّاً: "أعرف أن كلماتي مفككة، وأنني خسرتُ الانتظام... لأنني لست من يصوغ. لست العابد الحقيقي. أنا الخادم الصغير". هنا، لن تسعفنا صرامة نيتشه ومؤِّلهُ دريدا في قراءة "التشتيت"، ولا نعومة البلاغة في النقد الرديء... ولا يبقى إلا الشعر نفسه، ملجأ وحيداً، ونظاماً جمالياً محيلاً إلى ذاته.
يعلن زكريا محمد حالة طوارئ جمالية في الكون، ويحقق الشعرُ نبوَّة إنسيَّة، بفاعلية الكتابة، لا بمفعولية التلقِّي، إذ "الشعر يؤتى، ولا يُعطى" و"يُتكدَّى ولا يُحْصَلُ عليه"، على الرغم من أن "النشيد" يبدأ من حيث أنهى الله مهمته، والحالم حلمه: "من هذه البقايا ستصنع خمرتك". أما مدرسةُ الشعرِ: فالطيور على أسلاك الكهرباء، والنباتات في سفح جبل التجربة، وبعض ما خطَّه السابقون. وأنت "إن كنت تريد أن تتعلَّم، فليس في الكتاتيب كلها شيخ مثل النحَّام. إن كنت تريدُ مسيحاً مصلوباً، فليس هناك غير النحَّام" لأنَّ "الأرض مدرسة كبيرة، والسماء لوحُ صفٍّ أزرق، وطيور النحَّام تشرح الدرس". هنا، لا يصدر الشعر عن قوى عُليا، تسكن في الغيب، بل يكتبها شاعر، يقيم في الحاضر، بإزميله اللغوي الذي يُلاشي الفرق بين الكاتب والمكتوب، فيصير "النحَّاتُ منحوتاً، والممثِّلُ ممثَّلاً"، كما اقترح حسين البرغوثي مرَّةً.
حَلُمَ الشعراء الكبار بـ"الشعر الصافي"، أما زكريا محمد، فقد كتبه حين صار "من عبيد الشعر" الماهرين في "اختطاف المناديل، دون خداع الأحبة". لا ينكر الشاعر فاعليَّته، وقد استعبده الشعرُ، بل يتحوَّل من "مالك" للشعر إلى حارس على جماليَّته، وسادن لنقائه النسبي من وقوع الحافر على الحافر، إذ كل ما يقوله هو "إعادة ترتيب"، كما زعم باسكال، وردد زكريا محمد "قمحي من حواصل الطيور، وصفيري من حناجرها". لكنه، مع ذلك، مبدع في تحديد تخوم فاعليَّته في الشعر: "لستُ أنا من يصوغ هذا... لستُ أنا المالكُ يا إخوتي، أنا الحارسُ... أنا كاتبُ الوحي لا من تنزَّل عليه". ففعل الشعر يحدث بأمر الرب: "احفر وجودك بالرمح على الصخرة"، أو بأمر الحبيب "اطبع شفتك على قلبي"، ثم يتحقق الوجود كتمرءٍ للآخر، إذ الشاعر لا يزال يردد: "... أنا حبيس المرآة. ومن هناك أغنِّي لكم. اللحن ليس لي، ولا الكلمات. أنا المؤدِّي فقط". ولذا، فلا ضيرَ، ونحن نقرأ هذه "الوصيَّة" الوجودية، في"زراوند"، من بعض المدرسيَّة في تحديد أسئلة: العمارة، والمادة، والجدوى.
ربما لا تنبغي مقارنة "زراوند" بغيره أبداً، لكن قراءته طباقياً لا تضير وقد زوَّدنا زكريا محمد نفسه، في أحد مقاطع الديوان، بمفتاح ثمين. فالشعر، بمعنى ما: "حفر أنفاق"، والشاعرُ الذي نقرأ "الجميعَ"، طباقياً، معه، كان حافر أنفاق: "كانت الزبَّاء التدمرية حافرة أنفاق. كل نفق يوصل إلى مَثَل. وكل مثل يوصل إلى الموت. الحياة شبكة أنفاق تحت الأرض. الشعر أيضاً شبكة أنفاق. شبكة أنفاق واسعة من الأخاديع: الحصان خدعة، والنخلة خدعة، والغراب خدعة ثالثة. وأنا أردت أن أصل عبر هذه الأنفاق إلى ما لا يوصل إليه. أردت أن أهرب من الموت. لكن كل قصيدة نفق يوصل إلى الموت. وكان محمود درويش حافر أنفاق كبير. ثم في الأخير، أقفلوا عليه الأنفاق كلها. اضربني إذن والحديدة حامية. اضربني والنصلة دامية. كانت الزبَّاء التدمرية حافرة أنفاق. كانت صانعة أضرحة وقبور". غير أن زكريا محمد، لا يسلِّم بالموت في الأنفاق، بل يذهب للآفاق، لفضاء المسارب (Hodological Space)، حيث السماء هي "مخرج الطوارئ"، والمصير الأليَق بالشعر والشاعر.
في تقديمه للعدد (14) من "كتاب في جريدة"، بعنوان: "مختارات من الشعر الفلسطيني-مجموعة من الشعراء" (1998)، أرجع زكريا محمد الشعر الفلسطيني، بعد مرحلته الأولى، إلى تيارين اثنين كان "حافر الأنفاق درويش" علَّتهما الأولى، فلسفياً، رغم بعد الشقة بينهما، فنيَّاً: كان الأول محاكياً، فيما كان الآخر، جاحداً. وفي المحصِّلة، لم يفلت أحدٌ من مدار "حافر الأنفاق"، لا اللاحقون به، ولا الهاربون منه. وعلى مسافة مُرضية من هذا الحقل المغناطيسي الهائل، كان زكريا محمد، ولا يزال خارج "المظاهرة" التي لم تشكِّل "ظاهرة" شعرية في فلسطين. كان "هدَّاماً كبيراً للمعروف، لأنه بنَّاءٌ كبير للمجهول"، كما اقترح أدونيس، ومن قبله دولوز، في توصيف الشعر كـ"فعل مقاومة" للقارِّ والوثوقي. يحدث هذا في "شبكة تنافذية" لا تصل بين أرجائها النقاط بل تشكِّلها المناطق، ولا تُقاس فيها الأبعاد بوحدات المسافة، بل بمقدار الإزاحة. ولو قُدِّر لدولوز أن يقرأ "زراوند"، لأضاف لنموذج "الجذمور (Rhizome)" في المقاومة، ربوةً سماوية رحبة، نظريةً وممارسةً.
لكن شعرية المسارب هذه لا تقتصر على "موضوعات" الشعر، بل تتعداها نحو "إمكانات" اللغة، أي إدخال الشعريِّ، أو ما قد يوصف أنه كذلك، إلى اللاشعريِّ، أو ما قد يوصف أنه كذلك. حين يقول الشاعر، مثلاً: "في كفِّي حجران: واحد أقحط به على الصخرة حرفاً، وآخر أكسر به وجه النجمة"، فإنه لا ينجز صوة شعرية، وحسب، بل يخلق ممكناً شعرياً، ومُحالاً واقعياً، يُزامله لتحقيق الجمالية، وأحياناً ينفيه. وحين يقول، مثلاً: "سأحيلك إلى زانية أيتها الوردة"، لا يحيل الوردة إلى زانية فعلاً، بل يجعلنا نفكر في إمكانية إحالتها، فيفتح مسارب في عقلنا الجمالي لمحض إمكانية ممارسة الوردة مهنة قديمة، شنَّعتها الأديان، ووبَّخها التاريخ.
ولعل أفضل طريقة لتنفيذ "شعرية المسارب"، بعد الدربة والملابسة، هي انتحال عين طائر أعمى، أو صقر مخمور، تتضاعف في ذهنه الاحتمالات، كذهنِ حالمٍ أو يزيد، كي يدرك المعنى وهو يؤسِّسه، ويصطاد الفكرة: فـ"نحن صقور عمياء تصطاد بالخمرة. أما صقور السماء، فأعينها مفتوحة مثل خواتم ذهبية. الشعر صقر مخمور أعمى، يغمض عينيه كي يرى". لا بدَّ، إذن، من إغماض العيون حتى نرى، ولا بدَّ من بلوغ التخوم حتى ندرك المعنى، تماماً كيمامة تقامر بعشِّها حين "تضع عيدانها على النافذة" و"مصيرها على الحافة"... إنها تخطب الفكرة بالمخاطرة، وتؤسس أبعاد مكانها الأليف، برسم مسارب زواله قبل حيِّزية بقائه. أما النملة، فيضعها الشاعر: "على محيط الدائرة، وهي تدب وتخلق المعنى... ليست مهنتي أن أجد المعنى. مهنتي أن أجعل النملة تجري على المحيط ولا تعثر على بيتها". هذا هو الزمن الدائري الذي يخلق إمكانية أفق، لا السقوط في نفق نهايته موت الكلام واندثار معناه. فـ"الحياة سلسلة أنفاق... والشعر نفق معتم نختنق في داخله. [و] لسان العرب نفق طويل، يوصل إلى الجاهلية، وإلى ما قبلها". هذا هو السجال الذي يخوضه زكريا محمد مع إرث الشعر العربي، وهذا هو النزال الذي يخوضه مع بدانة سقراط، ليس في ممكن الحركة واستحالة السكون، بل في حفز ذاتِه-النملةِ على "المشي على رؤوس أصابعها كي لا يموت النائم في نومه، وكي يثبت أن الحركة مستحيلة".
لكن، ثمة شرط آخر لإنجاز شعرية المسارب، وهو الاقتصاد في القول، لا على شكل مقاطع وحسب، بل بـ"التعطيش" الذي يعمل به في حياته، ويوصي به، بعد مماته "عطِّشوا لي، حين أموتُ، نخلتي، عطِّشوا ناقتي"، يقول. فالشاعر المختلف هو من يعطِّش النخل كي لا يخسر التمر، ويعطِّشُ الكلمات كي لا يخسر المعنى، ويعطِّش روحه كي لا يخسر الحُب. ويلحق بهذا الشرط أحوال الشاعر، وأهمها "الصمت" و"الترك" حتى يتمَّ الفعل الشعري، ويأتي الشعر. لكن من أين يأتي الشعر، كفعل حُب؟ من التخلِّي بـ"الصمت" و"الترك". يقول: "الصمتُ حَبْوَتي... والتركُ عِبرتي".
في "زراوند"، يهدينا زكريا محمد كتابة شذرية، شعرية مقاطع لا شعرية قصائد. فالديوان، المكتوب بين العامين 2013-2019، يحتوي على 255 مقطعاً غير معنونة، ولا محددة مكان الكتابة، فيه مقطعان مُعادان. يكتب، وهو خبير الكلام العذب، النصيحة: "الكلمات طيور بأجنحة قصيرة. وهي لن تصل بك أبداً إلى المدى الذي تريد. دعها إذن تطير بأجنحتها القصيرة إلى المدى الذي تقدر عليه"، إذ لا ينبغي أن نرهقها بالطيران، فـ"النهار قصير"، يقول الشاعر، "ولا يكفي كي يحرق ميسمُه جبيني. والليل ضيِّق وصغير، ولا يكفي كي يكون مطلعاً لقصيدتي". يبرر زكريا محمد شذريَّته بقصر نفس الكلمات، والنهار، والليل، والقصص التي قد تشكِّل ملحمة بناء الوجود، لا ملحمة تهديمه... ولذا، يصف نفسه بـ"الغرِّ" كاتب المقطوعات القصيرة.
وعلى الرغم من ذلك، يمارس زكريا محمد حرِّيته في هذه الشذرية: "قصيرات خطواتي، وقصيرات جملي. لكن ليس لأحد سلطان علي"، ويناجي مُلهمته "نسرين" أن يكون مقطعها قصيراً ناطقاً بلسانها ولسان الله. ليس عند الشاعر ما يكفي من الوقت، وهو يلهج: "قصيرة رحلتي. وقصار قصائدي". والزمن، مثل الشاعر، ليس عنده شهية لكتابة قصائد طويلة، إذ سيقضي الجميع "بالطلقة ذاتها" تحت الشمس. والشذرية، إذ تكفل لزكريا محمد هذه الحرية، لا تقتصر على صنعة الصياغة وحرفة النحت، بل تؤمِّن له تجاوزاً لامعاً للسجالات المبتذلة حول شعر "التفعيلة" وشعر "النثر"، نحو ضرورة التمييز بين "الشعر" وا"للاشعر"، أو بين "الشعر الصافي"، وما هو دونه. ليس في "زراوند" موسيقى زائدة، وليس فيه إيقاع ناشز. لم يختر زكريا محمد الإيقاعَ، ولم يختره الإيقاعُ، ولم تكن تنقصه نرجسية "الشعراء الكبار" لادعاء ذلك، بل اختار الإيقاعُ ذاتَه، وحدد الشعرُ خياراتِه، فتحقَّقت، في الديوان، شعريَّة الدَّهش، وموسيقى الدهشة.
وإلى جانب تكامل الصياغة والموسيقى، أبقى زكريا محمد حجاباً شفيفاً بين "الوعي" و"أشياء الوعي"، وأعطى لكل منهما مقداره. ففي جعبته معجم رعويٌّ لا ادعاء فيه ولا فجاجة، بل تجربة تُحرر القديمَ من فرجوية الاستعمال، وتنقذُ الجديدَ من تعمُّد الإهمال. وفي المعجم مفردات تبدو عاميَّة، وهي فصحى، نسينا كونها كذلك. وقد أتاح هذا المعجم النادر لزكريا محمد خياراً رعوياً، ترحالياً، ترامت أطرافُ مادته الكلامية من صفحات "لسان العرب" إلى "صفحات "الفيسبوك"، ومن سعف النخل في "جبل التجربة" إلى شاشة "اللابتوب"، ومن آزرار"الآيباد" إلى"أسلاك الضغط العالي". لقد كان في هذا المعجم ما يجعل الشعر شعراً، والشاعر شاعراً: قدرة لافتة على إدارة عمليات "الترتيب" وإعادة الترتيب"، تشبه المشي على الماء، يستحق من يمتلكها أن يُتذكَّرَ، إذ "المجد لمن قرأ (لسان العرب) كله. لمن فُتن بكل (جذر) من جذوره. الكلمات خشبٌ يطفو فوق الماء. وأنا أعبر فوق الخشب... وأمشي فوق الماء".
وأما ضامن اجتماع هذه العناصر في الشعرية الشذرية، فهو الحنين الدائم إلى درجة الصفر في النحت، أي في الكتابة بوصفها نحتاً للتاريخ، لا كتابةً ضوئيةً له "على الكيبورد" وحسب. لكن هذا ليس توقاً رومانسياً لشروط مواتية للكتابة، بل هو تشكيل للعتبة السائلة بين الوجود العدم، ورغبة في استحضار المسافة الصفر، والدرجة الصفر، والنقطة الصفر... لجعل الحياة ممكنة عبر فعل الوجود الأجمل، وهو: الكتابة. وعلى الرغم من قصر هذه الحياة، وانتظامها (وجودياً) بين بداية ونهاية على شكل مستطيل يشبه البيوت وغرفها، وتحويل الموت أجسادَنا إلى مستطيلات في الفراغ... إلا إن مهمة الشاعر (جمالياً) تتجلى في سدانة اللغة التي تستعصي على الاستطالة، والكدُّ لئلا يتحوَّل "الشعرُ إلى مستطيلٍ" يحذِّر زكريا محمد الشعراءَ من السقوط فيه، الكهل منهم قبل الشاب.
سؤال الجدوى-شعرية التسرية
لا شك أن جدوى الشعر خبر قديم، ولكن زكريا محمد يواجهه ببعض الحقيقة حين يقول: "ليس للشعر موضوع ولا فكرة. ليس له هدف ولا مغزى. هو فعل تسكُّع بين الحياة واللغة. هو جدال بين النبيذ والقهوة لا غير". بمعنى أن الشعر فعل تسرية للوقت، لأنه "ليس من أهل الليل، ولا من أهل النهار". وعلى الرغم من معقولية ذلك، إلا إن جدوى جماليته تكمن في تخريب العلاقات القارَّة، وفي تدشين نظام موازٍ للحقيقة خارج النظام. ولعل هذا ما يربط جدوى الشعر بالقدرة على الإضافة في مسيرته. فزكريا محمد يتجاوز مفهمة الشعر نحو مفهمة الإبداع، وإن على نحو ميلانكولي، حين يتمثَّل زرياب، ويقول: "... من العيب أن لا تضيف شيئاً. إن لم تجد شيئاً تضيفه، فأطلق النار على اليمامة في عشِّها. فهذا شيء مضاف. وإن لم تقدر على ذلك، فأطلق النار على شقيقك الذي في المرآة"، ذلك أن "على المرء أن لا يبحث دوماً عن الأصالة".
لكن هذه المفهمة للإبداع، يتم تجاوزها نحو التأنيب، إذ "عار على الشاعر أن لا يعثر على كلمة آسية. عار عليه أن لا يلتقط حتى ولو تمرة واحدة من النخلة العالية"، يقول زكريا محمد. فالإبداع ابتكار علاقات، وممارسة عنف رمزيٍّ باللغة لتدشين أنماط جديدة منها، والشعر بحث عن رأس الخيط. ولذا، يصرُّ زكريا محمد على إضافة شيء ما: "أنا لا أبدأ كلامي، بل أستأنف كلاماً سابقاً... لا تؤاخذوني، يجب أن أعثر على رأس الخيط. الحياة ورقات متفرقات يجب أن تُربط بخيط حتى لا تفلت منا. والشعر خيط لعين يربط أشياء لا رابط بينها". لكن الشاعر-المخرِّب، أحياناً، يشتغل قاطعاً للخيوط حين يتعلق الأمر بالحرية، حرية الكتابة والطيران وقد اجتمعتا في حرية الخلق الجمالي للعلاقات الجديدة في الكون: "قطعتُ خيط الطائرة الورقية في يدي، فغيَّبَتها السماوات. هذه هي حكمتي. هذا هو حنيني الكبير. أنا قاطع خيوط"، وأحياناً أخرى، لا يلتقط المعاني، بل "يعترضها" كما لو أنه "طائر يعترض الحشرات في الجو. يأخذها بمنقاره، ويعدمها فوراً". هنا، وهنا فقط، يمكن للشاعر أن يحقق مهمته في "تخريب" علاقات الواقع، وإعادة خلقها على نحو مفرح، إذ الشعر حرب علاقات. وثمة قدرة استثنائية في يد الشاعر الذي تأمره "المورِّثات الجينية لخلاياه وحمضه النووي" بالشرور وتغيير المصائر والانقلاب على "الطبيعة الشريرة" في البشري... قدرة تُصيِّره فوق-بشري ليتحدى قدره، ويقهره بدلاً من أن يقهره القدر: "الفجر أعمى. ونحن سنأخذ العصا من يده. سنقطع طريقه، ونضلّه عن بيته". وإن تحقق هذا التخريب، فإن الشاعر، وعبر "لعبة الشعر" التي هي الكذب، يخلق واقعاً موازياً للحقيقة التي قد يصيْرُها، وقد تصيْرُه: فـ"الشعر ليس الحقيقة، بل أختها الكاذبة".
وعلى الرغم من حرب الزمن على الشعر، إلا إن واحداً من تعريفات الشعر في "زراوند" أنه "محاولة للتراضي مع الزمن" لأنه "حصَّة الزمن"، المنظِّم الوحيد للتغيِّر، حين تقيم الآلهة في الأرض أو تنسحب إلى السماء. وفي ربط الشعر بالزمن إحالة على استعصائه على الهزيمة بتوقُّف الزمن عند الموت. ولذا، فهو محاولة انتصار على الزمن بالضرورة، وعلى الموت. وللشعر بعض الجدوى في تحقُّق فعل البكاء الفجائعي الذي يعتقد زكريا محمد بأنه "خطأ جيني لا يغتفر" في الإنسان، ولكن الإنسان: "يضع أصابعه على الثقوب السبعة للقصبة، فتبكي القصبة نيابة عنه. تبكي القصيدة بدلاً منه". ولربما يكون لهذا "البعض" ما يكمِّله من جدوى يحقِّقها الشعر، فهو كالحب، ينهض على سوء فهم مع الحبيب (الشاعر) والكون (فضاء الشعر)، أو على سوء الحظ مع الاثنين، مثل "قذيفة هاون تسقط على المسطبة"... وتتحقق "المسرَّةُ البِدئيَّة" عبر التوازن، كما قال لوكريتيوس: في أول الشعر، ومنتصف السعادة، وآخر الحب.
في استدراكٍ نشرته "الأخبار" اللبنانية في 29 شباط 2020، بعنوان: "الشعر والبندورة" لمناسبة صدور مجموعته الجديدة "زراوند"، يوجز زكريا محمد علاقته بالشعر في سؤالين سيطرا عليه: التجديد، والجدوى. أما "التجديد"، فقد أنجزه، رغم تواضعه الأنيق في توصيف العلاقة مع الشعر أنه لا يزال يـ"ضل عن بابه وعن كتابه". وأما "الجدوى"، فلا تزال تتحقق ببطء فادح، ولا يزال يصارع من أجلها، إذ: لن يخرج الشعرُ من عروتِه، إلا بخروجه هو من عروةِ الشعر، حيث يتوقَّف الشجر عن التوريق، ويصير الشاعر "قدحةً بين نجمتين"، و"الشعر نجمة وحيدة". لكن الشعرَ سيظل حبيب الشاعر، يمضي به "بعيداً ووحيدا"، ويصبر عليه، إذ الحبيب عروةٌ للحبيب لا يتركه و"لا يرمي في يد حبيبه قرشاً ويمضي. الحبيب يمشي، والسراج في يده، كي يهتدي حبيبه".
* هذا هو الجزء الأول من المقال حول "مفهمة الشعر" في ديوان "زراوند"، يتلوه، قريباً، جزء آخر حول "أسئلة الشعر".