مع ساعة إنجاز هذا المقال، تكون الضفة الغربية قد شارفت على نهاية أسبوعها الأول في متاهة حالة الطوارئ، بينما تترقب شقيقتها غزة لحظة الحقيقة بعد عودة آخر المعتمرين، ويكون "المغولي كورونا المستجد" قد عشش رسميا في محافظتي بيت لحم وطولكرم، بينما يتواصل "النهب الحلال" للمحلات التجارية وتكديس احتياجات مفترضة في كل بيت، وكأننا نتحوط لهجوم ذري وشيك، رغم التطمينات المتكررة من السلطة بأن سلسلة التوريدات وخاصة الغذائية منها بخير دون نقص. وبذات الوقت، تكون دمامل التخلف والجهل قد استكملت انفجارها بوجه الأجانب والمحجورين وذوي المصابين، حتى بات البعض منا غيلاناً عطشى لتدمير كل ما هو جميل في هذا الشعب الطيب المضياف النخوجي، متنكرين لأنفسنا، متجاهلين مواطنتنا بواجباتها وحقوقها، وغير عابئين بجهود السلطة المبذولة للحفاظ على السلم الصحي والأهلي، على تواضعها.
يتحول ما تبقى من فلسطيننا إلى قبو يضيق علينا تدريجيا مع الإغلاقات المتصاعدة داخليا، وإغلاق الجسور، وتلويح دولة الاحتلال بإمكانية إغلاق باب السجن الخارجي علينا في المرحلة الأولى، بعد التزود بحاجتها من القوى العاملة والتضحية بالسماح لهم في المبيت "ضيوفا معززين ليلاً"، وأُجراء منزوعي الكرامة ومتهمين إلى أن يثبت العكس نهاراً.
في ظل هذه الأجواء المنتفخة بالتوتر، لا بد من التأكيد مرة أخرى على وجوب منح السلطة فرصتها كاملة لإدارة الأزمة، ودعمها في خطواتها، وإبراز التلاحم والتكافل على كافة المستويات، والرأفة بالجار وتبني ذوي الحاجة، والدعم المعنوي لكل مصاب وعائلته وقبيلته ومحبيه، والأهم عدم فقد البوصلة نهائيا، وتوجيهها باستمرار نحو التغلب على "كورونا المغولي"، والخروج سالمين بأقل الخسائر.
على الرغم مما ورد، فإن الحقيقة الساطعة، على مرارتها، بأن الاقتصاد الوطني ينكمش بسرعة، وتُلحِق الإجراءات المتخذة خسائر فورية مدمرة بكافة القطاعات، وإن بدرجات متفاوتة، والتي تُعتَبر الثمن الحتمي لتأمين أقصى الحماية لشعبنا، والانتصار الحتمي على "المغولي"، وغير القابلة ربما لمنعها، مهما بلغت درجة تحوط السلطة في تقليلها.
في هذه الأثناء يخوض "دولة الرئيس"، أعانه الله، حرباً شبه كونية على جبهات مختلفة، ويستثمر في الموارد التي بين يديه لمواجهة تحدي حياته بقيادة سفينة متهالكة في بحر هائج إلى بر الأمان، مراهنا على جيش السلطة بكافة أطيافه وانتماء المواطنين وعون الجيران غربا وشرقا، طامعاً بعناية إلهية خاصة ترميه بطوق النجاة. ومع تضامني معه في مهمته شبه المستحيلة؛ إلا أن هذا لا يمنع بعض المكاشفة والنصح من زميل تجربة وصديق مرحلة، كمساهمة متواضعة قد تعزز جهوده المباركة.
أولاً: شريك الأغلبية مغيب
القطاع الخاص الفلسطيني شريك أساسي في المغارم في كافة مراحل نضال شعبنا وعلى رأسها هذه المرحلة، ويتحمل ثمن وتبعات كافة الإجراءات الوقائية المتخذة لحماية شعبنا، وكما عودنا دائما عبر تاريخ قضيتنا، فهو جاهز لتحمل المسؤولية والمساهمة في دفع فاتورة الحرب على "المغولي"، كما عبر عنها ممثلوه في بياناتهم الرسمية مؤخرا ومناسبات عديدة، ولكنه طاقة مهدورة غير مستغلة جيدا في هذه المعركة، بما في ذلك "سقوطه سهوا" من كافة التشكيلات واللجان والفرق المركزية والمناطقية تقريباً، كما هو الحال بمؤسسات المجتمع المدني. وقد يكون تجاوز المجلس التنسيقي للقطاع الخاص في الاجتماع التشاوري الذي تم مع دولته قد "سقط سهواً"، على الرغم من اعتراف كافة الحكومات السابقة بهذا المجلس، على علاته، كمرجعية عليا للقطاع الخاص الفلسطيني.
ثانياً: غرفة العمليات الاقتصادية المالية المركزية الموازية
ترافق مع إعلان حالة الطوارئ جملة قرارات وإجراءات مست عصب الاقتصاد الفلسطيني، وهذا متوقع، وسيكون لها تأثيرات كبيرة على بعض القطاعات، وهذا متوقع أيضاً، إلا أن حياة أي مواطن أغلى على شعبنا من كنوز الدنيا وما فيها، وأعتقد أن القطاع الخاص جاهز لدفع الثمن عن طيب خاطر إن كان ذلك سيوفر ولو حياة واحدة. وتستدعي جميع هذه التدخلات القسرية، ذات الطبيعة الطارئة، في عصب الاقتصاد الوطني وجود غرفة عمليات اقتصادية مالية مركزية موازية لغرفة عمليات الطوارئ، يشارك فيها القطاع الخاص بكفاءة وتمثيل فعال، تكون مهمتها البحث المستعجل في التبعات الاقتصادية والمالية لكل قرار أو إجراء طوارئ سيتخذ أو تم اتخاذه، واقتراح الإخراج والآليات المناسبة للتخفيف من أثره الاقتصادي، بدون بيروقراطية أو فذلكة أو مزاودة. وبرأيي فإن حشر القطاع الخاص في زاوية المُتلقي سيرفع كلفة التعاطي مع القرارات /الإجراءات المتخذة حفاظاً على الأرواح، في سبيل السيطرة على "المغولي" وتكنيسه من وطننا، ويفوت الفرصة على تمتين الجهود القادمة، ورفدها بالإمكانيات المهنية والمادية، والمشاركة في تحمل المسؤولية.
ثالثا: صندوق التعويضات والإنقاذ الاقتصادي
تقوم دول عديدة بإعلان حالة الطوارئ في مواجهة "المغولي"، بما في ذلك إغلاق المنشآت الاقتصادية والمؤسسات المكتظة وتحديد حركة الأشخاص، ولكنها جميعا تشترك في الإعلان عن خطط أو أفكار للإنقاذ الاقتصادي والتعويض عن الكلفة المادية لإجراءات الطوارئ، والحفاظ على اقتصاد نابض بالحياة ولو بالحد الأدنى. نعلم جيداً أن إمكانيات السلطة المالية محدودة جداً، وليس من المتوقع أن تجاري هذه الدول وتكون قادرة على تعويض المتضررين كلياً عن خسائر حالة الطوارئ، ولكن ذلك لا يعفيها من الإعلان عن الالتزام بالتعويض ولو الجزئي، وأقترح هنا إنشاء صندوق تعويضات تساهم السلطة وتبرعات القطاع الخاص والفلسطينيون الموسرون في الشتات بجزء منه، ويتولى المانحون توفير الموارد المالية لدعمه، خاصة تلك الدول التي لا ترى في انهيار السلطة أو اقتصادها مصلحة لها.
رابعاً: شبكة الأمان الاجتماعي والاقتصادي لصغار الكسبة
في سياق تنفيذ الإجراءات الاحترازية سيتضرر كثيرون، وخاصة ذوي الدخل المحدود، فمثلا حين تغلق المطاعم والمقاهي، لا يقتصر الأثر على القطط السمان، وإنما يطال العديد من المنشآت الصغيرة ومتناهية الصغر، خاصة من القطاع غير المنظم، وسيؤدي ذلك إلى حرمان العديد من الأسر من قوت يومها. ويستدعي ذلك استنفار السلطة في توفير شبكة أمان لصغار النشيطين اقتصادياً بالشراكة مع القطاع الخاص، تحصيناً للجبهة الداخلية ومنعا ًلمضاعفات اجتماعية ونفسية نحن في غنى عنها الآن. أعلم جيدا أن هناك شبكة أمان اجتماعي للأسر المهمشة، ولكن المتضررين من صغار المستثمرين لن يكونوا مؤهلين للاستفادة منها، لا معنوياً ولا اقتصادياً. ومن المفيد أن تكون إحدى سبل المعالجة مراجعة بعض الإجراءات والقرارات المتخذة، وتقنينها وتخصيصها بدلا من العمومية والشمولية، والتي تجرف معها فئات لا يشكل نشاطها الاقتصادي أي خطر على العامة.
سادساً: منظومة دعم نفسي وتوعوي للأطفال
لقد كتب أحد الأصدقاء، وهو صحفي مرموق وموثوق، ما يقشعر له البدن في وصف ما كشفه تساؤل بريء من طفل لوالده المصاب عما إذا كان الموت سيغيبه، والذي أبكى كل من سمعوا أو قرأوا، وأعتقد أن كثافة التغطية والتفاعل مع الحالة القائمة يعرض أطفالنا لضغوط نفسية هائلة بشأن ما يخبئه الليل وغداً وبعد غد. إن أطفالنا بحاجة ماسة لمنظومة دعم نفسي وتوعوي لتجاوز هذه المرحلة، وأتمنى أن ترى هذه المنظومة النور في كافة المحافظات، بقيادة مختصين مشهود لهم، ومتطوعين من الجنسين، لعل وعسى يعوض ذلك أطفالنا عن رعب العيش في مجهول الفقدان وملجأ الحنان وعمود البيت. وإن كنتم لا تصدقون، اسألوا أهلنا في غزة العزة.
(يتبع)