في العشرين من نوفمبر عام 1945، امتلأ قصر العدل الذي افتتحه ملك بافاريا لودفيج الثاني عام 1916، لتشهد مدينة نورمبرغ والعالم كله أشهر محاكمة عرفها التاريخ، التي استمر عملها 11 شهرا، بعد أن جلس في قاعة الاتهام، كبار قادة الدولة الألمانية المهزومين، كان على رأسهم، المارشال هيرمان غيورنج، الذي كان قبل 6 أشهر ثاني أقوى رجل في ألمانيا، أو لنقل في العالم كله بعد الزعيم أدولف هتلر، بعد أن جلس خلفه 23 زعيما نازيا. ومع أن مساحة قاعة المحكمة (القاعة رقم 600)، 246 متراً مربعاً، إلا أن مقاعد قفص الاتهام التي جلس داخلها المتهمون، صممت بشكل، يجعلهم يشعرون بالضيق. ومن الجدير ذكره أن الغائب الأكبر في المحكمة، كان الزعيم النازي أدولف هتلر، الذي مثُلَ في تلك القاعة عام 1925، ولكن بصفة "شاهد" في قضية، أقامها رئيس بلدية المدينة ضد إحدى الصحف العنصرية.
وتعود فكرة إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة الأعضاء الذين خططوا أو نفذوا أو شاركوا بطريقة أو بأخرى في جرائم الحرب، إلى أواخر عام 1943، خلال الاجتماع الذي جرى على مائدة العشاء في مؤتمر طهران، حينما اقترح الزعيم السوفياتي، جوزيف ستالين، إعدام 50000 نازي، من سياسيين وعسكريين، من أصحاب الرتب العسكرية المختلفة. وجاء رد الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، مازحا:-
وهل من الممكن أن نكتفي بإعدام 49000 فقط؟. أما تشرشل، فقد قال، إنه يفضل أن يطلق النار على نفسه، على أن يوافق على مثل هذا الاقتراح.
واتفق الحلفاء على محاكمة النظام النازي عقيدة وفكرا، وإظهار جرائم حربه، من خلال توجيه التهم لقادته الأربعة والعشرين الذين يجلسون في قفص الاتهام. وتألفت المحكمة من 8 قضاة يمثلون قوى الحلفاء الأربعة، الاتحاد السوفيتي وأمريكا وبريطانيا وفرنسا. وكان هيرمان جيورنج هو محط أنظار العالم كله. جلس جيورنج، الذي عمل نائبا لهتلر في أيامه الأخيرة، في الصف الأول من القفص. وظهر الرجل الذي كان قائدا لسلاح الطيران، ومؤسسة لجهاز «الغستابو» (المخابرات) منذ اليوم الأول للمحاكمات، متماسكا، قوي الشخصية، وساخراً من كل الاتهامات التي وجهت إليه وإلى رفاقه، كما أن تأثيره ظل قويا على باقي المتهمين. حتى أنه قال متهكما، في دفاعاته:-
إن كل دولة من الدول المنتصرة ستتحدث عن التهم التي برعت هي في ارتكابها، لذا فسوف يتحدث ممثل الادعاءان الفرنسي والبريطاني عن تهمة احتلال دول أخرى، وسرقة أموال الشعوب، وسيتحدث السوفييت عن المجازر والتعذيب، أما الأمريكان فسوف يتحدثون عن الإنسانية والأخلاق.
وبدأ جيورنج يكيل اتهاماته بالعنصرية التي تمارسها الحكومة الأمريكية تجاه السود، وبارتكابها الإبادة الجماعية بالقائها القنبلتين الذريتين قبل 3 أشهر فوق اليابان. واستدار المتهم نحو المدعيين العامين، الفرنسي والبريطاني، متسائلا، عن قانونية مذابح سكان المستعمرات وسرقات خيراتها ومواردها واستعباد شعوبها منذ مئات السنين.
وظل جيورنج ينهي كلامه باستهزاء وتهكم وقهقهة، حتى أن الصحافة العالمية كتبت في اليوم التالي أن جيورنج قد أحرز نصرا إعلاميا على الحلفاء. وفي اليوم التالي، استرسل الرجل باتهام الاتحاد السوفيتي وحزبه الشيوعي بارتكاب مجازر جماعية بحق الشعوب، من أجل فرض النظام الشيوعي. كما كشف جيورنج عن اتفاق ألمانيا والاتحاد السوفيتي (معاهدة مولوتف -ريبنتروب 1939م)، بضم دول البلطيق (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا) إلى الاتحاد السوفيتي مقابل السماح لألمانيا بضم بولندا. وأضاف الرجل متسائلا، بأن لا أحد يعلم من أطلق النار أولا!. متهما الاتحاد السوفيتي بأنه هو من شن الحرب على ألمانيا، وهو بذلك يطالب بتعويضات مالية لبلده، وكانت تلك، هي الفرصة التي انتظرها المدعي العام السوفياتي لينقض على عدوه. وما هي إلا لحظات حتى أظهر السوفيات "أسيرهم السري"، الفيلد مارشال فريدريك باولوس، الذي تم أسره يوم 1 شباط 1943 بعد معركة ستالينجراد، التي ظن العالم كله أن الفيلد مارشال انتحر أو قتل، إذ أن العسكرية الألمانية لم تشهد طيلة تاريخها استسلام فيلد مارشال لعدوه. وشهد الفيلد مارشال على أن ألمانيا هي التي شنت الحرب على الدولة السوفياتية.
وفي الأول من أكتوبر 1946، تمت محاكمة 22 متهما، بعد أن كان من المقرر محاكمة 24 متهماً، (انتحر "جيورنج" قبل ساعتين من تنفيذ حكم الإعدام!، واعتبر مسؤول آخر، غير صالح للمثول أمام المحكمة). وفي 16 أكتوبر، تم إعدام 11 متهما شنقا حتى الموت، وحُكم على أربعة متهمين بالسجن، وتبرئة ثلاثة آخرين.
ومع أن قاعة المحكمة رقم 600 تم تحويلها في العام 2010، إلى متحف، إلا أنها وضعت معايير إنسانية على تصرفات زعماء وقادة الدول في الحروب، مما مهد الطريق لإنشاء محكمة الجنايات الدولية International Criminal Court، في الأول من تموز من العام 2002، والتي تعتبر أول هيئة قضائية دولية لمحاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية وإنشاء سجون ومعسكرات الاعتقال والجرائم ضد الإنسانية من اضطهاد وتعذيب وتمييز عنصري.
وتنص قوانين المحكمة هذه، التي تتبناها العديد من الدول الأوروبية، بمحاكمة أي "مجرم حرب"، على أراضي تلك الدول الأوروبية، حتى لو حدثت الجريمة على أرض بلدك، أو حتى في بلد آخر، انطلاقا من أن التعذيب والاضطهاد والتمييز والاستبداد جرائم يعاقب عليها القانون الدولي.