تقديم: لقد اشتغل الأدباء على الوباء، وكتب بصدده كتّاب مثل دانييل ديفو، ودوبينيه ولافونتين."أعيد قراءة الطاعون، بتؤدة للمرة الثالثة. عمل مهم جدا، تزداد أهميته باستمرار''. إشارات سحرية خاطب بها لوي غيو، ألبير كامو بخصوص رواية الطاعون.
ونحن بصدد كتابة هذه السطور، نلاحظ استفحال جائحة فيروس كورونا. وفي خضم سياق ذلك، تتجلى ملاحظة وإن بدت أقل أهمية، تتعلق بارتفاع مبيعات رواية كامو في إيطاليا مثلما داخل فرنسا.
غداة هجمات 13 نونبر2015،التجأ الفرنسيون إلى إرنست همنغواي. وبعد الحريق التراجيدي لكاتدرائية نوتردام الباريسية، سيتعلق الأمر هذه المرة بالتحول نحو فيكتور هيغو النصب الشهير. بينما آنيا، يحتل كامو موقع الطليعة،لكن ليس وحده،بل كذلك تعرف رواية العمى لجوزيه ساراماغو،داخل المكتبات،لحظات متميزة.
تستحضر ثانية هذه المقالة ذاكرة تلك النصوص، التي وسمت كل واحد منها الوعي البشري نظرا لتطرقها لموضوع الوباء.
سنة 1940،باغت وباء غريب ساكنة مدينة وهران. يتساقط الناس كالجرذان. ساد الارتباك،ثم قفزت الكلمة المناسبة بشكل سريع جدا: يتعلق الأمر بالطاعون. هكذا صارت المدينة منفصلة عن العالم قصد محاصرة كل انتشار للوباء،بينما يدمر الموت واليأس الأجساد والأفئدة. يرصد كامو، وسط تلك الجزيرة، يوميات هؤلاء القابعين داخلها من خلال وجهات نظر متعددة واضحة التباين.تهيمن الخلافات.
اشتغل كامو على هذا النص الروائي طيلة سنوات، وتوقف عن مواصلة كتابة العمل غير مامرة.لكن بلا شك، انغمس الكاتب في العديد من الوثائق لاسيما لصاحبها دوبينيه، مثلما أفصح إلى فرانسيس بونج سنة 1943 :"لم أكتب سطرا واحدا منذ شهر.يتراكم كل شيء داخل قاعة الانتظار،كاليغولا وسوء تفاهم، ثم الطاعون، وأنا فقط بصدد رعاية الكسل".
جاء البناء السردي خياليا. لقد رأى البعض في عمل كامو تجسيدا للنازية حينئذ. وهذا ماكتبه كامو نفسه إلى بارت سنة: 1955 "الطاعون أشبه بمحتوى واضح عن نضال المقاومة الأوروبية ضد النازيين. الدليل، أن العدو الذي لم تتم تسميته، اكتشفه كل العالم، وعلى امتداد جل البلدان الأوروبية.يمثل الطاعون، وفق دلالة معينة، أكثر من مجرد سجلّ للمقاومة. وبالتأكيد، ليس أقل من ذلك''.
"ألتجئ إلى توظيف الحيوانات قصد تهذيب البشر". لم يضمر قط لافونتين غاياته. وخلف الجانب الشعري، لعمله'' حكايات على لسان الحيوانات ''(1668) ليس فقط طريقة لإعطاء حروفه النبيلة، إلى جنس أدبي اعتُبر غاية لحظته قاصرا بل طريقة لتهذيب الإنسان – وبالطبع انتقاده- من خلال إعطائه مرآة تعكس عالمه.يأخذ الملك صورة الأسد، وتتحول حاشيته إلى قردة، ويغدو المتشدقون ديكة… هكذا أصبح بلاط لويس الرابع عشر وضيعا مثل أفعال و سلوكيات بعض ''كبار'' فرنسا.
لاتمثل حكايات الحيوانات المريضة بالطاعون. لكن،لافونتين ينتقد من خلال هذا :"الشر الباعث للرعب"، سلطة الملك الاستبدادية (هنا تتمثل في أسد ''يفترس'') وكذا أفراد حاشيته المنافقة، الذين يتملقونه .يبحث الملك في بلاطه زيفا عن قصاص من الوباء الذي يهلك جنوده، مادام أنه يعتبر مصدره. هكذا يوجه لافونتين سهام نقده إلى العدالة التي لاتحكم على الجريمة، بل المرتبة. لاجدوى للضمير: "فسواء كنتم أقوياء أو بؤساء،ستحولكم أحكام البلاط إلى بيض أو سود".
تطرق الخيال العلمي إلى موضوع الطاعون. يتخيل الكاتب عالما يؤرخ لسنة 2073، استعادت معه الطبيعة حقوقها بعد أن أباد وباء غريب (الأصل الاشتقاقي الأول للطاعون) الكون، ليس سنة 2020، بل سنة 2013(نحن إذن بأمان). سمي هذا المرض بـ 'طاعون قرمزي"، لأنه اتسم بخاصية إضفاء لون أحمر على الجسد.
طبعا، ليس كل شيء أسود (أو أحمر، بحسب) في هذا الكتاب الذي يحيل على مابعد القيامة . فقد تمكن أشخاص من النجاة وبالتالي إعادة خلق مجتمع من العدم. لكن كيف يمكننا الوجود دون ماض بينما العالم الذي اختُزل إلى الحالة الطبيعية لايمتلك ثقافة قط؟ وسط هذا العالم المنبعث من الغبار، بادر أحد الأجداد و أستاذ قديم، بإحياء تاريخ البشرية الضائع من خلال الحكايات التي يرويها إلى أطفاله الصغار. فهل يمكن للحضارة أن تولد ثانية؟ تقدم في هذا الإطار مدينة لندن مبررا للقولة المأثورة: مادامت هناك حياة،يستمر الأمل.
اشتهر مؤلف هذا العمل أساسا بروايته روبنسون كروزو أكثر من حديثه عن موت الإنسانية. مع أن دانييل ديفو، عاصر لحظة تفشي المرض المرعب. حينما أصدر يومياته سنة 1722، كان المؤلف على دراية بمستويات الرعب والموت التي بلغتها مدينة مارسيليا نتيجة جائحة الطاعون: "هكذا وصف ديفو سنة 1720،خلال مناسبات عديدة وفترات مختلفة،الأضرار التي أحدثتها الطاعون في فرنسا''.
مع ذلك، لا يتعلق الأمر تحديدا في كتابه بحاضرة مارسيليا،بل لندن، التي شكلت سنة 1665، مرة أخرى ضحية للطاعون. لقد اشتغل موضوعه بكيفية مزدوجة حسب بيير جوليان: ''يلزم– باعتباره مصلحا- كعلاج وقائي بناء على دروس التجربة التي أدت إلى قتل سبعين ألفا في مدينة لندن خلال سنة واحدة،الامتثال لإرادة الرب''.أ يضا، استفاض الكاتب بهذا الخصوص، في تدقيقات وأوصاف طبية. هكذا، تكلم عنه الناقد الأدبي واطسون نيكولسون بالكيفية التالية: "لقد قدم ديفو وصفا يليق بكبار الأطباء السريرين خلال القرن التاسع عشر… مثلما يوجد مجتمع للجريمة، يقوم إلى جانبه مجتمع الطاعون والذي أثقل جدا كاهل تاريخ الذهنيات''.
المرجع غير شفاف كما الشأن بالنسبة للنماذج السابقة. فالكاتب هنا، وقد أصيب بالوباء سنة 1562، يعرف عن كثب تفاصيل الأخير وكذا معطيات دماره. تطرق دوبينيه في عمله الضخم تراجيديات، إلى قضية حروب الأديان، ممتدحا كتابة شيطانية، تثير في الوقت ذاته الرعب والشفقة والإعجاب أيضا.
نقرأ معه، في هذه المقاطع المنطوية على نبرة اللعنة ضمن سياق تعبيره عن رأي: "هل تريدون سمّا؟ بلا جدوى لأنه خديعة.هل تسرعون؟ عبثا تلك العجلة؟ تركضون نحو النار الحارقة؟ ستجمدكم النار؛ هيّا ارتموا وسط الماء غرقا ؟ سيحتضنكم، هذا الماء النار؟ لن يهتم قط الطاعون بالشفقة عليكم. اختنقوا؟ عبثا ستبادرون إلى أن تلفوا حبلا؛ اصرخوا بعد الجحيم؟ فلن يُخرج الجحيم من جوفه، سوى ظمأ أبديا نحو موت مستحيل".
يصور عبر هذه الكلمات، ''تجليا''مثلما يبرزه الأصل الاشتقاقي لكلمة''القيامة" ويدفع اللعنة عن"أطفال هذا القرن''.
شقاء بالنسبة للمذنب.
*مرجع المقالة :
Le figaro :05- 03- 2020.
http://saidboukhlet.com