جريمة حرق الطيار الأردني حيا على يد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تنذر بحالة غير مسبوقة من الإرهاب والترويع ستشهدها المنطقة العربية قد تغطي على الإرهاب الصهيوني ، وقد يكون ذلك أحد أهدافها . المنطقة مقبلة على حالة غير منضبطة وغير خاضعة لقانون أو شرعية دولية ، ولا لتعاليم دينية ، ولا لأخلاق إنسانية . التطور والجديد في منحى العنف والإرهاب المتصاعد ليس عملية الحرق بحد ذاتها ، حيث تم قتل الآلاف حرقا أو أسوء من الحرق عن طريق الأسلحة الكيماوية والقنابل الفسفورية وغيرها من وسائل الدمار التي تلقيها كل الأطراف المتقاتلة باسم الإسلام على المدنيين وعلى بعضها البعض .
الخطورة تكمن بالجهر والتفاخر بعملية الحرق وعرضها على وسائل الإعلام بدون خوف أو خجل ، وما قد يتبع ذلك من ردود فعل يقوم بها معارضو داعش ، بنفس أسلوب جريمة الحرق - وقد سمعنا أن الأكراد أحرقوا عناصر من داعش ردا على حرق الطيار الأردني - بالإضافة إلى الإساءة الكبيرة والخطيرة للإسلام عندما تقول داعش ، والبعض ممن يعارض داعش ، إن القتل حرقا له سابقة في تاريخ المسلمين ، وهو لا يخرج عن سلوك مارسه المسلمون سابقا في عهد وعلى يد الخليفة أبو بكر الصديق، بل وله سند في احاديث نبوية كما يزعمون ! والخطير وما يثير الشبهات أن هذه العملية تأتي في وقت يتحرك فيه المنتظم الدولي لمحاكمة إسرائيل وقادتها على ما ارتكبوه من إرهاب بحق الفلسطينيين ، حيث خطفت هذه الجريمة البشعة الأنظار عن إسرائيل وجرائمها ، وقد تؤدي تداعياتها إلى جر الأردن ليصبح ساحة لعمل تنظيم داعش ، وما يترتب على ذلك من تداعيات على القضية الفلسطينية .
جريمة حرق الطيار الأردني جزء من منظومة متكاملة فكرية وممارساتية للجماعات الإسلامية المتطرفة ، سواء في سوريا ،العراق ،اليمن ، ليبيا ، مصر ، نيجيريا ، أو أفغانستان الخ . فإن كان الحرق أو قطع الرؤوس يعتبر (إبداعا) من وجهة نظرهم في مجال الحرب ، فلهذه الجماعات (إبداعات) أخرى في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ،مثل : نكاح الجهاد، تحريم التلفزيون ، منع وتحريم التعليم وخصوصا للفتيات، تكفير كل من يخالفهم الرأي ، وتطبيق خاص ينبني على فهم خاص للشريعة الإسلامية الخ .
والسؤال كيف سيكون حال الدولة التي ستقوم إذا أستقر الأمر لهذه الجماعات وانتصرت على (أعدائها) ؟ ! . ما هو نظام التعليم الذي ستتبناه الدولة الإسلامية الجديدة ؟ وما هو النظام الاقتصادي والمالي ؟ وكيف ستكون العلاقات بين مكونات المجتمع الطائفية والإثنية ؟ وكيف ستتعامل هذه الدولة مع العلوم والمعارف والتقنيات الحديثة ؟ وما هي الثقافة والهوية التي ستسود في مجتمع هذه الدولة ؟ وكيف ستبنى العلاقات مع العالم الخارجي ومع المنظمات الدولية ؟ وكيف ستكون علاقة دولة الخلافة الجديدة مع بقية الدول الإسلامية ؟ وأسئلة لا عد ولا حصر لها .
التفكير الهادي والعقلاني في تأسيس هذه الجماعات وأهدافها النهائية ، وخصوصا تنظيم الدولة (داعش) يضعنا أمام إحدى الفرضيتين :-
1- إن هذه الجماعات أو غالبيتها لديها بالفعل منهجا ورؤية متكاملة لكل ما تمارس ولهدفها النهائي في إقامة دولة الخلافة الموعودة ، وهي تري بالفعل أن ما هو قائم في بلاد المسلمين أو خارجها متعارض مع الشريعة الإسلامية وهي دار كفر، وبالتالي فالجماعات مكلفة بتصحيح أنظمة الحكم في بلاد المسلمين وفي العالم من خلال القتال حتى قيام دولة الخلافة التي قد تبدأ من بلاد الشام ولكنها لن تتوقف حتى يعم الإسلام كل العالم . وهناك كثيرون ممن يؤمنون بذلك ومستعدون للموت في سبيله، وهؤلاء يرون أن ما يأخذه عليهم الآخرون من تطرف في التفكير والممارسة هو الإسلام الصحيح المهجور . وبالتالي ترى هذه الجماعات أن سقوط مئات الملايين من البشر وتدمير مدن وانهيار دول وطنية أمر طبيعي وعادي وثمن قليل في مقابل الهدف النبيل والسامي الذي يسعون إليه ، والإسلام في نظرهم لم يقم إلا بالسيف وبالفتح ولن يعود إلا بهما .
ضمن هذا السياق لتاريخ المسلمين فإن عملية حرق من يعتبرونه مرتدا أو عدوا للإسلام ليس بالبدعة الجديدة وإن اختلفت الظروف وتقنيات عرض المشهد. فهل سيكون مشهد جريمة حرق الكساسبة أكثر بشاعة ، فيما لو توفرت تقنيات التصوير الموجودة اليوم ، من جرائم بشعة ارتكبتها جماعات إسلامية متقاتلة بحق بعضها البعض عبر تاريخ المسلمين ؟ منها دخول بعض المسلمين وبعضهم من الصحابة على الخليفة عثمان بن عفان أحد المبشرين بالجنة ، وطعنه بالسيوف والرماح حتى الموت بعد أن منعوا عنه لأيام الماء والطعام ؟ أو مشهد أسماء بنت أبي بكر الصديق تنظر لابنها الصحابي عبدالله بن الزبير بعد قتله وصلبه لأيام على شجرة بيد مسلمين أيضا ، وهي تقول : أما آن لهذا الراكب أن يترجل ؟ أو قصة مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب الخ . ولكن تاريخ الإسلام والمسلمين حافلا أيضا بعكس ذلك من المواقف والإنجازات الجيدة والمشرفة للمسلمين والبشرية .
2- أما الفرضية الثانية فترى أن كثيرا من هذه الجماعات صناعة غربية وصهيونية ، هدفها الإساءة للإسلام وتدمير الأمة والفكرة القومية العربية ، وتدمير الدولة الوطنية التي بدأت تعرف حالة من الاستقرار مما يؤهلها للدخول في عالم الحداثة والتقدم والتحول الديمقراطي وإن كان بطيئا ، والتحكم في مقدراتها الاقتصادية ، وبداية التفكير بالتموقع كقطب يمكن أن ينافس أو يواجه إسرائيل والمصالح الغربية . وأصحاب هذه الفرضية يعززون أقوالهم ويستشهدون بما آل إليه حال الأمة العربية والإسلامية منذ صعود هذه الجماعات الإسلامية المتطرفة قبل أربعة عقود تقريبا .
فمع وبسبب هذه الجماعات أو تحت ذريعة محاربتها ، تم تشويه صورة الإسلام كدين ، وتم استنزاف مقدرات الدول العربية بحروب ومواجهات دموية ، في الجزائر والعراق وسوريا واليمن وليبيا والمغرب ومصر ، مواجهات وحروب أهلية أعاقت التنمية الاقتصادية والسياسية ، وتم إثارة النزعات الطائفية والمذهبية ، وتفتيت الدولة الوطنية . بالمقابل ازدادت الهيمنة الغربية وخصوصا الأمريكية حيث لا يخلو بلد عربي من قاعدة عسكرية أمريكية أو لم يرتبط بحلف أو اتفاقية أمنية مع واشنطن ، وفي ظل ومع ظهور هذه الجماعات تراجعت مركزية الصراع مع إسرائيل وبات العدو الداخلي ومحاربته له الأولوية على العدو الخارجي ومحاربته ، وفي ظل وجود هذا الجماعات باتت إسرائيل تعيش عصرها الذهبي ، وباتت المصالح الأمريكية اكثر أمنا وأمانا .
وأخيرا نستشهد بما قاله الرئيس الفلسطيني أبو مازن وهو يعزي الشعب الأردني بفجيعة إحراق الطيار ، حيث قال إن هذه الجريمة لا سابقة لها إلا الجريمة التي جرت قبل أشهر ويقصد بها جريمة قتل وإحراق الفتى المقدسي محمد أبو خضير على يد الصهاينة ، وكأنه في ذلك يريد أن يذكر العالم أن إسرائيل كانت وما زالت مصدر الإرهاب ، وأن وجودها وممارساتها الإرهابية تعطي المبررات والذرائع لمن يريد أن يمارس الإرهاب في المنطقة كرد على إرهاب إسرائيل ، والرئيس محق في ذلك ، بل ونعتقد أن جريمة إحراق الطفل الفلسطيني أبو خضير أكثر بشاعة من جريمة إحراق الكساسبه دون التقليل من خطورة وبشاعة وإدانتنا لإحراق الطيار حيا ،. هذا الأخير كان مقاتلا تم اعتقاله في ساحة معركة ، أما أبو خضير فمجرد مراهق مسالم . نرجو أن لا تنسينا الأحداث في دول الجوار حقيقة أن إسرائيل هي الدولة الاستعمارية الإرهابية الوحيدة في العالم التي تمارس الإرهاب بطريقة ممأسسة وممنهجة ورسمية .