الحدث.
لا أميل للقبول بمقولة أن داعش وكل ما تفعله عبارة عن منتج أمريكي صهيوني 100%، ولا علاقة لها بثقافتنا ولا بتراثنا ولا بتاريخنا .. فمثل هذا الطرح يمنحنا راحة وهمية، ويجعلنا نتغافل عن جوهر المشكلة؛ ذلك لأن ظاهرة التطرف لا تحضر دون أن يكون لها جذور تاريخية، ولا تقوم ولا تستقوي دون حاضنة شعبية وثقافية، ومن ناحية ثانية فإن داعش هي آخر ما تم تفريخه من جماعات دينية متشددة، لا تقل عنها ضراوة وتخلفا. الحقيقة التي يجب أن نراها بوضوح, أن بيئتنا تربة خصبة لإنتاج ظواهر مثل داعش، وربما بما يفوقها همجية.
وقصة داعش، وكيف صارت فجأة، باتت معروفة للجميع؛ فمن ناحية السرد التاريخي لكيفية نشوئها وتشكلها، تابعنا كيف تمكنت عصابة لا يتجاوز عمرها السنة، أن تركب بضع مئات من سيارات التيويوتا، وتسير في موكب استعراضي في أرض مكشوفة في وضح النهار، دون أن يكتشفها أي راصد، ولا تتعرض لأي قصف، ثم تجتاح إقليم كامل وتحتله، وتقيم عليه كيانا سياسيا أسمته "الدولة الإسلامية" في مدة لا تتجاوز 24 ساعة !!
أما من ناحية طبيعة ومحتوى هذا التنظيم، فقد بات واضحا للجميع، بالصوت والصورة عالية النقاء، أنهم مجموعة من المرتزقة والشواذ ذوو النزعة الإجرامية والميول السادية، الذين وجدوا في هذه البقعة مرتعا خصبا ليمارسوا فيها نزواتهم البدائية، وقد جاؤوا من كل أنحاء الأرض، مدفوعين بأحقادهم، أو مطرودين من مجتمعاتهم التي لفظتهم، أو التي عجزوا عن التكيّف معها، إما بسبب تركيبتهم النفسية المريضة، أو لأنهم تعرضوا لما يسمى صدمة البداوة مع الحضارة، وهي صدمة تصيب كل من يعجز عن استيعاب مفردات العصر، حتى لو كان يعيش في قلب أوروبا، وكل من يعاني من قلق وجودي، أو نكوص ماضوي، أو اغتراب شديد، أو كبت جنسي، أو شعور بالنقص والتهميش، أو أنه ضحية المجتمع .. وهؤلاء الأشخاص لديهم حقد دفين تجاه الآخرين، ولديهم استعداد لفعل أي شيء وارتكاب أي جريمة ليتخلصوا من معاناتهم الداخلية، ويتحرروا من كبتهم، ومن إحساسهم بالنقص والاغتراب، وهؤلاء عادة يسعون لتبرير جرائمهم وتجميلها بالشعارات والنصوص الدينية، لأن ذلك يخلصهم من الشعور بالإثم ومن عذاب الضمير، وفي النتيجة يصبحون مجرد وحوش بلا رحمة وبلا إنسانية.
والسؤال المطروح: هل الحرب على داعش قضية أردنية !؟ وما الذي يجعل طياراً أردنياً يشارك في حرب خارج بلده ؟ وهل هذا يمهد لقبول مقولة البعض، بأن داعش إنما قتلت شخصا كان يحاربها في أرضها !!
بداية، منذ متى صارت أرض الموصل والرمادي والرقة وحلب أرضاً لداعش ؟!! ثم أن أغلبية الدواعش من جنسيات مختلفة، لم يطأوا أرض العراق وسورية من قبل، وإذا كانت حجة داعش أنها قتلت طيارا يقصفها، فما هو مبرر قتلها للرهائن الأجانب وهم صحافيون !! الحقيقة أن مشكلة داعش، لا تنحصر في الحيز الجغرافي الذي تشغله حاليا، رغم فظاعة جرائمها التي اقترفتها هناك، فهي تتمدد، وتهدد دول المنطقة، بل والسلم العالمي بأسره، وقد باتت خطرا على الأمن القومي العربي، لذلك، فإن من حق الأردن؛ بل ومن واجب شعوب المنطقة التصدي لهذا التهديد، ومحاربته في عقر داره، لأن السكوت والحياد يعني انتظار هؤلاء المجرمين حتى يصلوا بيوتنا، ويسبوا نساءنا، ويحوّلونا إلى مجرد رعايا عند الخليفة البغدادي !! والأخطر من ذلك أن ينتشر فكرهم ومنهجهم التكفيري المتزمت المعادي لكل القيم الإنسانية. وإذا كانت مشاركة بعض الدول العربية في التحالف الدولي لمجرد إرضاء أمريكا، أو للحصول على مكاسب معينة، فإن هذا لا يقلل من أهمية محاربة داعش، ولا يعني أن نترك داعش في حالها، بحجة أنهم مسلمون؛ فقد كان الخوارج من الصحابة ومن حفظة القرآن، ومع ذلك حاربهم الإمام علي بلا هوادة.
الملاحظة الأخيرة، مشهد الإعدام البشع .. والذي أكد على الطبيعة الإجرامية لهذه العصابة، فعلى ما يبدو أن مشاهد الذبح، وحز الرقاب، وتجميع الرؤوس، ورمي الرجال من البنايات الشاهقة، وقذف النساء بالحجارة، والإعدامات الجماعية، والجَلد والصلب وقطع الأطراف .. أصبحت مناظر مألوفة ولم تعد تشفي غليلهم، ولا تطفئ نيران حقدهم، وأصبحت الإثارة وتحفيز الأدرينالين تتطلب جرعات أعلى من العنف، وابتكار طرق جديدة في الإجرام والتعذيب .. وطبعا، باستخدام أحدث تقنيات التصوير وصناعة الصورة، التي يراد منها بث رسائل رعب وتخويف للعالم.
هذا المشهد يؤكد أن أغلبية الأفلام السابقة التي بثتها داعش وجبهة النصرة وغيرهما صحيحة، ما يدحض كل الإدعاءات التي كانت تدافع وتبرر وتتهرب من مواجهة الحقيقة، وتدعي أنها أفلام مفبركة الهدف منها الإساءة للإسلام .. هذه المرة دعمت الفيلم بفتوى ابن تيمية، لا بل وقارنت هذه الجريمة مع قصة "العرنيين" التي حدثت في عهد الرسول الكريم، ولا أرى إساءة للنبي وللإسلام أكثر من ذلك.
خطورة الفيديو ليست فقط في شدة وحشيته وقسوته، بل في كيفية تفاعل الناس معه، وردود أفعالهم؛ فقد انتشرت دعوات الانتقام والأخذ بالثأر، وامتلأت قلوب الناس بالكراهية تجاه هذا التنظيم، وسادت أجواء التوتر والشحن والتحريض، وهذه البيئة ستولد فكرا متطرفا مضادا، واستعدادا أعلى لممارسة العنف والرد بطريقة مشابهة .. ما يعني أننا ساهمنا من حيث لا ندري في إنجاح المخطط المشبوه الذي خلق داعش، وأراد لهذه المنطقة أن تمتلئ بالكراهية، وأن تدخل حلقة من العنف وحروب الانتقام والثأر المتبادل، لن يخرج منها أحد سالما.
حتى ننتصر في حربنا على داعش، يتوجب علينا محاربة كل الأسباب والعوامل التي تنتج الفكر الداعشي المتطرف، والكف عن دعوات الكره والانتقام، لأن الانتقام والحقد يجردنا من إنسانيتنا ويحولنا إلى وحوش، وإلى دواعش من نوع آخر.