الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مناديل النساء/ بقلم: د. سامر العاصي

2020-03-18 09:23:54 AM
مناديل النساء/ بقلم: د. سامر العاصي
د. سامر العاصي

 

قررت بلدية بون الألمانية، يوم الأربعاء الماضي، 11 آذار 2020، إلغاء مهرجان الاحتفالات بمناسبة مرور 250 عاما على ميلاد الموسيقار الشهير لودفيج بيتهوفن، بسبب المخاوف من فيروس كورونا. والحقيقة أن الحظ السيء ظل ملازما لحياة "أبو الموسيقى الكلاسيكية"، منذ ولادته وحتى مماته. ورغم أن الرجل عاش 57 عاما، إلا أن طفولته التي تحكم بها والده، مدمن الخمر ومدرس الموسيقى، بتعليم طفله الصغير الموسيقى، بالضرب بالعصي، جعل بيتهوفن منطويا على نفسه، صعب المزاج، غريب الأطوار. 

ويؤكد الكثيرون، أن بيتهوفن ورغم شهرته الواسعة، كان بعيدا عن عيون وقلوب النساء كفتى الأحلام، فهو لم يتزوج رغم شغفه وحبه للنساء. كما أنه لم يكن يبالي بارتداء الملابس الممزقة. أضف إلى ذلك، أن فوضويته، ومزاجه المتقلب، جعلاه أيضا بعيدا عن أعين الارستقراطيات وعما تحبه كل النساء. ومع أن الشائعات انتشرت في فيينا آنذاك، عن قصة حب بينه وبين جامعة التحف الشهيرة السيدة "انتوني بيرناتو"، إلا أن أحدا من بارونات وأمراء ومو النمسا كلها، لم يكن ليصدق مثل تلك الخزعبلات، وذلك للفارق الطبقي الشاسع بينهما. كما أن قصة حبه مع جوزفين، ابنة الكونيسه المجرية الشهيرة "أنا برونسفيك" لم تنته بزواجهما ولنفس السبب أيضا.

أحب النمساويون والأوروبيون، أعمال بيتهوفن الموسيقية كلها. وصار ملوك وأمراء وأغنياء القارة يتهافتون لسماع موسيقاه وألحانه، التي كانت وما زالت، تصل إلى أعماق وأحاسيس الناس أينما كانوا، ومن كافة الأعمار. ومع بداية القرن التاسع عشر، كان بيتهوفن، قد نشر سيمفونيّتيه الأولى والثانية، وأصبحت موسيقاه وألحانه تُعزفان في أفخم القاعات والصالونات، مما دفع ملك النمسا، إلى بناء قاعة كبرى في فيينا عام 1800، لكي يتمكن الجمهور من الاستماع ومشاهدة الموسيقار الكبير.
ولشدة إعجاب بيتهوفن بالثورة الفرنسية، ولظنه الكبير أن نابليون بونابرت، هو محرر الشعوب، الذي يسعى لتطبيق مبادئ الثورة (حرية، إخاء، مساواة)، قرر بيتهوفن عام 1802 كتابة سيمفونيته الثالثة، التي ستصور مسيرة حياة رجل ثوري عظيم، لإهدائها إلى بطله الثوري. وفي نهاية العام 1804، وقبل أن ينتهي بيتهوفن من كتابة سيمفونيته الثالثة بقليل، جاءه تلميذه الموسيقار ريتس، يخبره أن بونابرت تنكر لمبادئ الثورة، وأنه اعتلى عرش فرنسا، بعد أن توج نفسه بنفسه امبراطورا، وأنه أخذ التاج من يد البابا في كنيسة النوتردام، ووضعه فوق رأسه  بنفسه، قبل أن يقلد زوجته "جوزفين"! تاج الإمبراطورية أيضا. 

غضب بيتهوفن وبدأ يمسح اسم بونابرت من على الصفحة الأولى لسيمفونيته، مكتفيا بترك كلمة ايرويكا، وتعني البطولة، بدلا من عنوان السيمفونية القديم. ثم قام الفنان بإهدائها إلى أحد الأمراء. وهكذا، لم يُكتب لبونابرت أن يُخلد بسيمفونية بيتهوفن الخالدة، التي يطلق عليها حتى اليوم، بالمقطوعة الموسيقية الأعظم.

ومنذ تلك السنوات، صار بيتهوفن يعاني من مشكلة صحية خطيرة حاول أن يخفيها عدة سنوات، إذ كان على وشك الإصابة بالصمم، الذي بدأت عوارضه تظهر تدريجيا، ومع ذلك ظهرت أهم أعمال الفنان الموسيقية، ولم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره بعد. ومع مرور الوقت أصبح بيتهوفن، يعاني من فقدان القدرة على سماع الأصوات، واقتصر تعامله مع الأصدقاء المقربين فقط، بعد أن صارت الكتابة على الورق، هي لغة المخاطبة بينهم، مما أدّى بالرجل إلى التفكير بالانتحار. 

وفي العام 1822 بدأ بيتهوفن بتأليف أعظم ما أنتجته الموسيقى الكلاسيكية حتى اليوم. ففي السابع من أيار 1824، قدم الموسيقار العظيم سيمفونيته التاسعة، على مسرح "كيرت نيرتر" الشهير في فيينا، الذي امتلأ عن بكرة أبيه، وكان هذا أول ظهور علني للرجل منذ 12 عاما.

هناك الكثير من الحكايات تروى عن العرض التاريخي الأول للسيمفونية، إلا أنه من المؤكد، أن بيتهوفن ظل واقفا على خشبة المسرح، بعيدا عن الأوركسترا بعض الشيء، والتي كانت عيون أعضائها متجهة نحو قائد الفرقة فقط، المايسترو "مايكل أوملاف". ومع ذلك ظل بيتهوفن يتحرك على طرف خشبة المسرح وكأنه يعزف على كل الآلات بنفسه، ويهمس بشفتيه وكأنه يسمع صوت الجوقة الموسيقية. 

ومع أن بيتهوفن لم يكن يستطيع سماع تصفيق وهتافات الجماهير، إلا أن صدى ذلك، كان يهز خشبة المسرح، التي شعر بها بيتهوفن الأصم، وجعلته يكمل حركاته وكأنه هو قائد الأوركسترا الحقيقي.

ومع انتهاء الحفل، رأى بيتهوفن، بأم عينيه، الجماهير التي وقفت تحية له، وقد رمى الرجال والنساء قبعاتهم ومناديلهم في الهواء لكي يرى الفنان الأصم ما لم تستطع أُذناه سماعه. وبعد ثلاث سنوات، خرجت العاصمة النمساوية، عن بكرة أبيها، خلف جنازة الموسيقار الأطرش، الذي أسمعَ العالم كله موسيقاه الخالدة. 

ترى! أي إيقاع ينفع شعبنا، ليجعلنا نختتم حفلنا، كي يَرفع العالم لنا قبعته؟ أم أننا رضينا بمناديل النساء، نكفكف عليها دموعنا، ونبقى صما، بكما، وما لا تعلمون؟ 

المصيبة، أن يخرج من بيننا صوت، ذات يوم، يقول:-

  • المهم أن تكون جنازتنا كبيرة!