لينـــــا كيــــلاني - كاتبة وأديبة سورية
المستقبل هو ذلك المجهول الذي نبحث عنه، ونفكر فيه، ونحلم بأن يكون كما نشتهي أو نحب، إنه ذلك الباب المغلق الذي كلما حاولنا أن نفتحه وجدنا خلفه مفاجآت جديدة، إنه عالم تسبح في فضاء مساحاته رؤى الخيال، والإنسان يحلم بأن يقبض عليها ليحولها إلى واقع في حياته. وكأنما الحياة هي الوهم، والخيال هو الحقيقة، فعالم الواقع محكوم ببعدين لا ثالث لهما وهو يتحرك في مساحات الماضي والحاضر فقط. بينما عالم الحلم والخيال يضيف إلى بعديه في الماضي والحاضر بعداً ثالثاً وهو المستقبل، وكأن الخيال يقول للواقع أنا الحقيقي وأنت المزيف لأنك لا تستطيع أن تقبض حتى على اللحظة التي يولد فيها الزمن. إذ أنه من المعروف أن عين المرء لا تلتقط الصورة قبل أن يسقط فيها الضوء والبرهة الفاصلة بين هذا وذاك ولو أنها قصيرة جداً إلا أنها مساحة ضائعة من الزمن الحقيقي للمكان.
ولكن بعد أن أثمرت جهود الإنسان في استقراء بعض ملامح مستقبله وهو ينفذ إليه عبر تلك البوابة السحرية للخيال، والفرضيات العلمية التي سرعان ما تصبح حقائق بالأرقام والدلالات، أقول بعد كل ذلك كيف سنواجه تلك المشكلات الجديدة التي أصبحنا نعيش فيها في مجتمعات جديدة تعتمد أكثر ما تعمد على وسائل حديثة، وما يتوفر لنا من خلالها من تسهيلات وآفاق لم يعرفها من سبقونا في التاريخ؟ وحتى في نزاعاتنا المتصاعدة سواء على مستوى الأفراد أو الدول ألم نستفد من تلك الوسائل لتقرر مَنْ سيهزم مَنْ؟
ألم يكن حريّاً بنا أن نستقرئ آثار تطبيقات العلم قبل أن نبحث فيها ونوغل في طريقها؟ ما أظن إلا أن نعم لأن هذه التطبيقات قد أفرزت على مدى عقود مجتمعات داخل المجتمعات العريضة ذات مواصفات مختلفة ليس أولها إدمان استخدام وسائل الحضارة الحديثة، والاعتماد عليها بشكل كبير كما لو أن الحياة لا تصح إلا من خلالها، ولا آخرها اللهاث إلى حد الهوس وراء كل إصدار تكنولوجي جديد، أو الدخول إلى العالم الافتراضي الذي أصبحت الأجيال الشابة تنتمي إليه أكثر من انتمائها إلى عالمها الواقعي، أو تغير سلوك الأفراد وردود أفعالهم بالتالي.
لعله إذن ذلك البعد الثالث في مساحات الخيال ألا وهو المستقبل ما يشكل الحافز للاندفاع إلى حد اللهاث وراء مفرزات الحضارة بما فيها أسلحة التدمير قبل الإعمار. ومع هذا، ومع كل هذا فإننا لا ننكر دور العلم الحديث وتطبيقاته في تحسين حياة البشر، وإطلاق طاقاتهم الإبداعية، وتحفيز عقولهم نحو المزيد من الابتكار والاختراع، وخلق مناخات أكبر لنماء الفكر الإنساني وتطوره.
وما دمنا قد قطعنا أشواطاً نحو الضفة الأخرى باتجاه الابتكار، والاختراع، والاكتشاف فليس أقل من أن نقف في مواجهة التحديات التي بدأت تتكاثر أمامنا وهي تنذر بكوارث ربما سيقع فيها العالم إذا ما تجاهلنا الأخطار المستقبلية المحتملة لهذا التقدم العلمي الهائل الذي وصلت إليه البشرية وليس أوله الصعود إلى الفضاء، ولا آخره التقنيات متناهية الصغر، أو السلاح المتطور.
وها هي المنتديات الدولية أصبحت تعقد بمساهمات من دول كبرى بغاية استشراف المستقبل هذا الذي أسس على ما وصلنا إليه من تطور، وذلك وفق مناهج علمية دقيقة تقرأ ما يمكن أن يقع من نتائج سلبية لكل تطبيق علمي جديد يظهر إلى السطح والعلن. وهذه المنتديات إذ تضم في عضويتها الباحثين والعلماء فهي لا تغفل في الوقت ذاته كتّاب الخيال العلمي أولئك الذين ساهموا وإلى حد كبير في صنع مفردات الحضارة عن طريق الخيال، وإذا بهم مطالبون من جديد بإيجاد حلول لما اقترفته مخيلاتهم إن صح التعبير.
وإذا ما تجولنا على شبكة الانترنيت سنجد أن الباب مفتوح لأي منا لإيداع الأفكار التي تجنبنا تلك المخاطر وهي تترصدنا بعيون جهنمية تنفتح على كل آفاق حياتنا. فهل سيبادر أكثرنا أم بعضنا إلى دعم بنوك الأفكار هذه ونحن نستقرئ المستقبل دون النقمة على الحاضر؟