من منا لم يردد كلمات أغنية الفنان السوري دريد لحام، أو "غوار الطوشة" (يا مووو… يا موو… يا ست الحبايب يامو) التي غناها في مسلسله الكوميدي "ملح وسكر"، قبل أكثر من 50 عاما، حين اتكأ على قضبان حديد غرفته في سجن حارة (كل مين ايدو إلو)، ووقف خلفه أصدقاؤه المساجين، أبو عنتر، وياسينو، وغيرهم من ممثلي الزمن الجميل، وهم يغنون شوقا لأمهاتهم وحزنا للبعد عنها في يوم عيدها. الطريف ذكره أن "دريد لحام"، هو من كتب كلمات الأغنية. وقد يكون هو الفنان الوحيد (وليس المطرب) الذي غنى لأمه في عيدها. وقد غنى الكثيرون من المطربين والمطربات، العرب والأجانب، للأم في عيدها، كما أن الكثيرين من الشعراء والشاعرات كتبوا العشرات من القصائد للأم ولأمهاتهم بشكل خاص. وقد تكون قصيدة محمود درويش، (أحن إلى خبز أمي)، التي غناها مارسيل خليفة هي أشهر تلك القصائد. التي كتبها حين جاءت أمه لزيارته، وهي تحمل له الفاكهة والقهوة، في السجن الإسرائيلي. وقام السجان بسكب إبريق القهوة على الأرض، في حركة أراد بها إهانة الأم. وعلى الفور بدأ السجين بكتابة هذه الأبيات على علبة سجائر، لتصبح بعد عشرين عاما أجمل الإهداءات، للأمهات اللواتي لم يستطعن إيصال الهدايا إلى أبنائهن.
وللحقيقة، فإن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب هو أول من أطلق صفير سباق "أغاني الأم"، عندما غنى عام 1942 أغنيته الشهيرة (بلاش تبوسني في عينيا)، إذ أنه كان من المعروف في الوسط الفني، مدى تعلق وارتباط وحب عبد الوهاب الشديد لأمه، التي اعتاد أن يقبلها بين عينيها كلما ودعها أو التقاها، وكانت الأم ترفض ذلك في محبة، اعتقادا منها أن هذه إشارة قديمة لفراق.
وفي العام 1958 فجر عبد الوهاب، في حفل عيد الأم، قنبلته الغنائية الخالدة، (ست الحبايب) بصوت فايزة أحمد، التي ما زالت تقف "صخرة فنية عثرة"، أمام جميع الفنانين وكتاب وملحني الأغاني، حتى اعتبرت دون أدنى شك بأنها (ست الأغاني).
ومع أن المطربة الشهيرة نجاة الصغيرة، غنت بعدها أغنيتين للأم، إلا أن أغنيتها الأولى، "أمّي يا ملاك الحبّ"، التي غنتها في فيلم (غريبة) عام 1958، وإن جاءت من كلمات الشاعر الكبير أحمد رامي، وتلحين رياض السنباطي، إلا أنها لم تحصد أي نجاح يذكر. وعادت نجاة الصغيرة في نفس العام، تعيد الكرة مرة أخرى، وتغني أغنية ثانية حملت اسم "عيد الأم"، التي تقول فيها، "أمّي من غيرك ليّا يا أمّي" الخ الخ، إلا أن هذه الأغنية التي لحنها كمال الطويل، لم تحصد أيضا أي نجاح يذكر.
أما السيدة فيروز، فقد تكون هي المطربة الوحيدة التي غنت لأمها ولأم أمها!، حين غنت "ستي يا ستي"، التي تقول فيها: (ستي يا ستي اشتقت لك يا ستي، عَلي صوتك يا ستي الخ). ثم غنت فيروز عدة أغاني لأمها ولكل الأمهات مثل أغنية (أمي الحبيبة)، و(أمي نامت ع بكير)، و(أنا الأم الحزينة) و(أمي نداء الحنان). ولأن صوت فيروز يوصف بالصوت الملائكي فقد غنت للأم أغنية بعنوان (أمي يا ملاكي)، إلا أن فيروز ومع صوتها الملائكي، لم تستطع الاقتراب من أغنية (ست الحبايب).
وجاءت وردة الجزائرية، عام 1979، لتغني أغنية "كلّ سنة وانتي طيبة يا مامتي"!، التي وإن لحنها لها زوجها بليغ حمدي، إلا أنها لم تعجب 99% من سكان الوطن العربي! الذين اعتادوا منادة أمهاتهم، باسم، (يا مًـًا، أو يُومًـًه، أو أُمي، أو ميهمه، أو الوالدة، أو ست البيت، أو الست، أو الست الوالدة، أو ست الكل، أو الحجة، حتى انتشر الاسم الجديد "ماما"، مع بداية أوساط القرن الماضي)،......(إنما..... مامتي!! وكما يقول المصريون:- ف دي، حاجه جديدة خالص!)، ولهذا، لم يكتب لأغنية "مامتي"، بعكس ما لقيته أغنية غوار الطوشه الذي نجح بربط كلمات أغنيته بالكلمة السحرية من أغنية "ست الحبايب" حين غنى وقال:- (يا مو...يا مو... يا ست الحبايب يامو).
أما الممثل والمطرب والمنتج وشقيق الفنانة هدى سلطان، الموسيقار محمد فوزي، الذي جعل الأطفال منذ العام 1959، وحتى الآن، ينتظرون أمهاتهم، وهم مسرورون، ينتظرون الهدايا، إن هم ظلوا هادئين في البيت، دون بكاء، عندما غنى:- (ماما.....زمانها جايه، جايه.. بعد شويه.. جايبه لعب وحاجات). وفي عام 1959، لحن محمد فوزي للفنانة نازك، أغنية للأم اسمها "أحن قلب". ومع ذلك لم تنجح الأغنية مثلما نجحت أغانيه الجميلة التي كان للأم فيها، دور الناصح والمربي، كما في أغنية، (ذهب الليل طلع الفجر) التي يقول فيها:-ماما قالت له، سيب القطة وخليها بحالها الخ الخ. وأعتقد لو أن الفنان فوزي قال:- مامتك بتقول لك، سيب القطة!...... لسقطت الأغنية هذه أيضا.
أما الفنانة "شادية"، ولأنها لم تنجب أولادا في حياتها، إلا أنها كانت على علاقة مميزة مع أمها التي غنت لها أغنية "ماما يا حلوة"، إلا أن الأغنية لم تشهد انتشارا في الساحة الغنائية رغم أن شادية كانت من أشهر المطربات.
كذلك غنت الفنانة سعاد حسنى، أغنية "صباح الخير يا مولاتى" فى المسلسل التلفزيوني (هي وهو)، إلا أن الأغنية لم تحقق انتشارا يذكر. كما غنت المطربة سعاد محمد أيضا للأم في عيد ميلادها، إلا أن أغنيتها (يا حبيبتي يا غالية) لم تشهد أي انتشار يذكر.
ومع أن الأبناء والبنات هم دائما الذين يغنون للأم، إلا أن المطربة شريفة فاضل، كانت هي المطربة الوحيدة التي غنت لإبنها الشهيد طيار "سيد"، ابن المخرج السيد بدير، الذي استشهد في حرب الاستنزاف. وبعد انتصار أكتوبر 1973، أصرت شريفة فاضل أن تهدي ابنها أغنية تليق ببطولته، وطلبت من صديقتها الشاعرة نبيلة قنديل، أن تكتب لها كلماتها، ودخلت الصديقة إلى غرفة الطيار الشهيد، وما هي إلا دقائق قليلة حتى خرجت نبيلة، ومعها ورقة تحمل كلمات لأغنية أطلقت عليها اسم (أم البطل)، تقول فيها (ابني.. حبيبي يا نور عيني .. بيضربوا بيك المثل.... كل الحبايب بتهنيني .. طبعا.. ما أنا أم البطل). وما إن وصلت تلك الكلمات إلى يد، الملحن علي إسماعيل، زوج الشاعرة، حتى قام بتلحينها خلال أقل من ساعة!. وفي اليوم التالي قامت الإذاعة المصرية بتسجيل الأغنية التي لاقت نجاحا كبيرا بعد أن خرجت كلماتها من (أم البطل) بصدق وعاطفة جياشة.
وفي الغرب، وبينما كان الملحن الفرنسي هيوبرت جيراد، في صيف عام 1970، يقود سيارته وسط الازدحام الباريسي، مرت بجانبه سيدة تشبه والدته التي كان الفنان قد هجرها منذ سنوات، وانفجر هيوبرت في البكاء وبدأ يفكر في كيفية الاعتذار والعودة سريعا إلى أحضان أمه، وخلال جلوسه في السيارة انتظارا للضوء الأخضر، كان الرجل قد أتم فكرة كتابة أغنيته الحزينة التي سرعان ما سترددها أوروبا والعالم كله، حملت اسم (مامي بلو Mamy Blue).
وقد يكون العمل الفني الصادق، والصادر من القلب، هو السر في النجاح الأبدي للأغنية، وهو ما جعل من (ست الحبايب)، التي ظل عبد الوهاب لسنوات طوال، يبحث عن كلمات أغنية طالما أراد موسيقارنا الكبير إهدائها إلى من كانت يوما أعز الناس إليه. ومع أن حسين السيد، الذي كان يعشق رائحة أمه، ظل حبيسا في منزله أسابيع قليلة، دون أن يستطيع كتابة سطر واحد، كما طلب عبد الوهاب منه، إلا أن قريحته الفكرية، جعلته يكتب كلماتها خلال دقائق عندما اتصلت به أمه هاتفيا، وهي تبكي وتعاتبه، حتى سألها:-
أقولك إيه يا ستي علشان تسامحيني؟
فردت:- خلاص مسامحاك، قولي يا ست الحبايب!
وبدأ الرجل يصرخ:- هي دي ..هي دي!! ست الحبايب يا حبيبة، يا أغلى من روحي ودمي، الخ الخ. ودون أي تأخير، وصل "حسين السيد" إلى منزل عبد الوهاب، وخلال أقل من ساعة كان لحن الأغنية قد اكتمل!، ثم طلب عبد الوهاب إحضار المطربة فايزة أحمد، التي لم تكن تفارق أمها أبدت. ومع فجر ذاك اليوم، خرجت كلمات وألحان هذه الأغنية الخالدة، التي اكتملت بصدق مشاعر وأحاسيس مؤلفها وملحنها ومطربتها، لتصبح أيقونة دائمة في عيد الأم، وهو ما لم تستطع أي أغنية عن الأم، الوصول إلى ذلك.
اليوم وفي كل عام،
أقولها من قلبي، بصدق المشاعر والإحساس لكل الأمهات
مع دعائي بالرحمة دائما، لأمي ولكل الأمهات
كل عام وأنتن وعائلاتكن، بألف خير