تتجلى ماهويا، حقيقة الذات الإنسانية من خلال موقفين أساسيين يحددان طبيعة الكيان الإنساني صميميا، أقصد الشجاعة أو الجبن، يتدبر أمرهما معا سياق الموقف. بالتالي، فالإنسان قبل كل شيء وفي نهاية المطاف؛ يبقى موقفا. الموقف، يحدده نزوع شجاع أو ارتداد جبان.
سؤالان مصيريان يختزلان بين طياتهما مختلف معاني الموت والحياة. يتجليان بحدة، لحظات الضعف الإنساني، حينما يشعر الفرد بفوبيا تهديد من المجهول، وبأنه أضاع بوصلة السيطرة؛ بخصوص استتباب أمور معركته مع الوجود، والأخير قد نزع من تحت أقدامه البساط فيما يتعلق ببعض أسباب الحياة وليس كلها، ما دامت المواجهة مستمرة، لن تتوقف.
لم تكن قط الحياة، ولن تكون بالمطلق، مجالا للاستراحة والاستكانة أو الانقياد الآمن نحو مصير مطمئن تماما؛ بل الحياة في مبناها ومعناها ورطة تراجيدية، وهذا ما التفت إليه بعمق أصحاب الفلسفة الوجودية، على الأقل في جانبها المؤسساتي المذهبي، عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية مع ملايين الجثث الملقاة عبثا هنا وهناك، والخراب يعم العالم، وصرخات الآلام والعذابات الفظيعة تنبع من شتى جغرافيات بقاع الأرض؛ حيث الموت يكتسح بلا هوادة، في غياب تفسير مقنع لما يجري، وبدأ السؤال في التداول: لماذا حدث ما حدث، وبهذه البشاعة؟ ولماذا يحوي جانب كبير في الإنسان جل هذه النزعة التدميرية؟.
طبعا، اختلفت نوعية الأجوبة؛ حسب المرجعيات السياسية والاقتصادية والدينية والطبية الإكلينيكية…، متوخية البحث عن تفسير لما وقع، وسيقع دائما. إجابات تراوحت بين التأويل الأيديولوجي والمعرفي ثم القيمي؛ لكن في خضم ذلك، تستمر أطروحات الفلاسفة الوجوديين قائمة وباقي النزوعات ذات الحس الصوفي-الثيولوجي، التي سعت بعمق يوجهه بحس إنساني رفيع جدا، سبر أغوار الخلل، التي يكشف عنها ظاهريا؛ تأصّل وديمومة مشاعر السأم والضجر والقلق الدائم، مهما اختلفت نوعية السياق الإنساني، حتى مع أوج اطمئنانه، لكنها تتسيد وتحتل المشهد كاملا، لحظات الضعف البشري، وإبان الأزمات الحياتية المنطوية على معالم الانهيار، التي تشعر النوع البشري بنهايته.
العبث، هو الكلمة السحرية التي صاغت كل مشاريع الوجوديين: ما معنى الحياة؟ ما دام هناك موت يتربص بنا كل لحظة وآن؛ فلا مناص من سطوته؟. هذا الموت التي ينجز عمله بكيفية لا نهائية، وقد يأتي خلال أي لحظة؛ بلا توقع أو استئذان على مختلف ما أنجزته الحياة. وإن تداخل المفهومان بكيفية دقيقة، بحيث استحال حتى اليوم، قياسا لشتى ممكنات المعركة، وضع معجم بعينه قادر على احتواء مفهومي الحياة والموت.
نقاش افترضه الوجوديون، مصاحبا لنا بنيويا؛ عبر كل مرافق الفضاء العمومي من المنازل إلى المقاهي والأسواق والتجمعات العمومية فالجامعات والمسارح ودور السينما…، حتى نرتقي صوب مدارج وعي وجودي، ترسخت لبناته، بوسعه أن يمدنا بمناعة رصينة حيال ما تخفيه مآلات ممكنات الحياة.
ربما أغلب البشر، يعجزون عن تأمل عمق مصيرهم من هذه الزاوية، سوى مع دقات وقع حلول الصدمات الميتافيزيقية الكبرى، بينما تكون الغلبة المعتادة للهواجس اليومية المألوفة، التي شكلت دائما بكل المقاييس هروبا لا واعيا، وتملصا حربائيا من المواجهة الوحيدة المجسدة حقا لعبء الوجود.
وحدها الذوات الاستثنائية، التي بلغت كنه وعيها الوجودي، تكابد بغير توقف، حرقة الأسئلة الملحة للحظة الضعف البشري، فيتمتع أصحابها برؤى تبشيرية تنبؤية؛ تتجاوز معطى الوجود بما هو موجود، فتبرز متونهم أو ممارساتهم أو مسارات حياتهم النوعية، جوابا مفارقا يستشرف الآفاق البعيدة التي لا يتحسس وقعها باقي البشر، إلا متأخرا وغالبا بعد فوات الأوان.
اختبارات ومقاييس الضعف البشري حاضرة يوميا تصاحب خطواتنا، لكن مستويات إدراكها تختلف كما قلت، بحيث يتمثلها مبكرا هؤلاء المنصتون حقا للغة الوجود، فيكشف لهم دون غيرهم بمختلف رغباته.
لذلك فالحياة لعبة طارئة بامتياز، ولا يدرك معنى أن تكون حيا، سوى من امتلك حس التيقظ هذا، محاولا استيعاب رهاناتها الأصيلة؛ بتأمل أسئلتها الكبرى وتجنب الوقوع في شَرَك المبتذل اليومي، الذي يدخلنا في متاهة الدجاجة والبيضة، دون فهم صائب لحدود بداية المقدمة أو منتهى الخاتمة.
في حين يعتقد عامة الناس، أن الحياة محكومة بمنطق سببي؛ يمتثل من تلقاء نفسه لمواضعات معينة أو خاضعة لبنيات استدلالية تحترم متواليات تراتبية، هكذا ينساقون ويتيهون ولا تحدث الصدمة سوى مع الهزات الإنسانية الكبرى، التي تغير انقلابيا مجرى التاريخ العادي: أوبئة فتاكة، حروب دموية، أعاصير جارفة، زلازل مدمرة، براكين حارقة، أمراض قاتلة، اختلالات في الطبيعة غير طبيعية، مجاعات مروعة، جفاف يزرع الصحاري….
حينئذ يستعيد الفرد أنفاسه قليلا، ينتشل نفسه من الضجيج السائد، يجلس إلى ذاته، يتأمل مصيره، ينتقل بتفكيره مستعيدا إطار الأسئلة الأنطولوجية، التي تركها جانبا؛ ويعيد النظر في منظومة الأولويات التي شغلت اهتماماته سابقا.