الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

حنينٌ من وحي الكورونا / بقلم: عبد الله لحلوح

2020-03-27 10:18:45 AM
 حنينٌ من وحي الكورونا / بقلم: عبد الله لحلوح
عبد الله لحلوح

 

 في بيْتِها الذي كان ذات يومٍ بيتي أيضًا، لكنه لم يعد كما كان، ولا أجرؤ أن أقول إنه بيتي، فهو لها، أجل، لها وحدها. ولكنَّ زوَّارَهُ كُثرٌ هذه الأيام. في بيت أمي، يفرد الحبُّ جناحيه، ويسيرُ الخيرُ على قدميْه، والحياةُ هناك تُعيد سيرتنا الأولى.

لا أنسى ولم أنسَ ولا يحقُّ لي بأيِّ حالٍ أن أنسى كل ذكرى مفرحة أو مؤلمة في هذا البيت، فلطالما اجتاحته قبائلُ من حزنٍ وألم؛ فالفراقُ أشدُّ تلك الحالات، وما أصعب أن تفقد جدك أو جدتك، دون أن تكون على وعيٍ تام بمعنى الفقد! ولكن الأكثر صعوبةً أن ترى والدك الذي ستفقده بعد حين ضعيفًا باكيًا، أن ترى ذلك الجبلَ الذي لم تكن تتوقع أنه يعرف معنى البكاء، بل ربّما اعتقدتَ بأنه لا دموع في مآقيه، أن تراه يبكي وينشج ويشهق وتتطايرُ الدموع من عينيه، لتبلَّ ذَيْنَكَ الخدَّيْنِ اليابِسَيْنِ العابِسَيْنِ اليائِسيْن، إنهما الخدّان اللذان ما كانا يومًا هكذا، فهناك تشعرُ باليُتم، وتتذوق لأول مرةٍ في حياتك طعمَ الألم المُنَكَّهِ بالخوفِ والجفاف.

وبعدَ رحيل الأجداد تدرِكُ أنَّ الذين ينتظرون القطار هما والداك، فتعيش شعورًا من الانتظار الحذر، تترقب عقارب الساعة، وتتفقد هاتفك مرارًا أكثر من مرةٍ في اليوم، فلعلَّه كان في وضع ( صامت) وجاءتك مكالمة من هناك دون أن تتنبه لها. ثم تعيد الاتصال متجاهلًا كل ما في يديك، وتبقى على هذه الحال إلى أن يأتيك المنادي ويقرع طبلة أُذُنِكَ بخبر الرحيل، هناك تستلم الرسالة وتستسلم وتُسلّمُ الأمر لصاحب الأمر.

يرحل الآباءُ، ويتركون خلفهم البنين، وهي تَرِكَةٌ خطيرةٌ جدًّا، فقسمتُها ضَيزى لا محالة، فالأمُّ الباقيةُ في عرشٍ تخلخل، وفي مملكةٍ تهاوت أركانها، تصبحُ مَهيضة الجناح، وقد غاب عنها مَن كان ذات يومٍ بإيماءةٍ واحدة يُحرِّك ويُسكِّنُ ويجمِّع ويفرِّق.

في بيتِ أمّي، أعودُ الآن وحيدًا متسللًا إلى مملكةٍ متداعية، وقلعةٍ آيلةٍ للسقوط. وهنا/ك، أجول وأصولُ ببَصري وبصيرتي، عن بعدٍ قريب، وعن قرْبٍ بعيد، من خلال وسائل الاتصال والتواصل على اختلافها، أجلبُ صوتَها وصورتَها، وأغازلُ ضحكتَها معتذرًا ومبررًا غيابي الطويل، فما كنتُ هكذا أبدًا، ولكنّني أعرف الآن يقينًا أنني كنتُ أزورها دائمًا حُبًّا لها، وللذكرياتِ التي أتشمَّمُ من خلالها رائحةَ مَنْ طواهم الموت، ولكنني أكثرُ إيمانًا اليومِ بأنني لا أزورها؛ لأنني أكثرُ حبًّا وعشقًا لها؛ فانقطاعُ الزيارةِ الآن، مقرونٌ بجنونٍ وبائيٍّ استفحلَ وفتَحَ شهيَّتَهُ للموت، ولا بدَّ من كبْحِهِ بِلَجْمِ خيولِ الشوقِ الهائجةِ، فيقينُنا الآن يجب أن يُفَسَّرَ ويُتَرْجَم عمليًّا، ومع هذا اليقين، فإنَّ نار الشوق تلفح خافقي، وتشتعلُ فيَّ انفعالاتٌ عدة، ولا أجد بُدًّا من الاعتذار لها في كل اتصالٍ صباحيٍّ يوميٍّ، وكأنَّ صوتًا في عمقِ مكانٍ ما يقول لي: "لا تعتذر إلا لأمك" ورحم الله ابن البروة الشاعر، ورحمنا جميعًا مما نحن فيه من جائحةٍ سنخرجُ منها منتصرين إن تسلحنا بالصبر، وإن وجدنا لأنفسنا الأعذار في البعد الآنيِّ المُحَوْسَب؛ فأمُّك لن تلومك أبدًا إذ ما تخلَّيْتَ عن زيارتها في هذا الطقسِ الوبائي المُرّ، ولكنّك لن تتوقف أبدًا عن لوْمِ نفسِكَ لو كنتَ سببًا في هلاكِها بحنانِك الجائع. فالعباداتُ أماكنُها أُغلِقت، ولكنّ أبوابَها وإن أوصدت، فإنَّ معانيها الروحانية تبقى على ما هي، بل تشتدُّ أوارًا في قلوب المؤمنين، علَّنا نعود لها أكثر إيمانًا بعد أن تغورَ هذه الطامّة. والأم كذلك، ستنتظرُنا بقلبِها الذي لا يعرفُ السكون، وسنأكلُ خبزَها المعمَّدَ بالحبِّ المكين. فلنكن منحازين لوعيِنا الآن، ولنمنح عواطفنا إجازةً طويلةً مدفوعة الأجر، ولا مناصَ من الصلاةِ في رحالِنا، والدعاء لكلِّ من انخلعت قلوبُهم وهو يواجهونَ السمَّ الرهيب، لنظلَّ في البيتِ حتى لا تنخلعَ قلوبُنا. فالأعزاءُ لا عزاءَ لهم إنْ نحنُ أخطأنا.