أعتقد بأن التصنيف القائم غاية الآن؛ بخصوص طبيعة الأجيال التي عرفها العالم الحديث، حسب أصولها الأنثروبولوجية ثم نوعية النسق المعرفي الذي حدد رؤيتها إلى الكون، يتوافق كذلك مع تنوع وتطور فئات الأجيال التي عرفها المغرب، وإن اختلفت التفاصيل المحلية؛ لكن المحددات الكونية تظل في اعتقادي نفسها:
*جيل شارك في الحرب العالمية الثانية، وحرب الهند الصينية ''لاندوشين''، وساهم بشكل فعال في دحر النازية وتقويض أذرع أخطبوطها في كثير من المناطق الأوروبية. جيل في الحقيقة؛ لا نعلم عن حولياته سوى القليل نظرا لغياب التوثيق التاريخي لمجريات تلك الفترة. جيل؛ كابد مثلما تحتفظ بعض متون تواتر الحكايات الشفوية، شتى أنواع العذابات التي تفوق قدراتنا العادية على تصورها، من جوع وأمراض وأوبئة.
*جيل مقاومة الاستعمار الفرنسي والنضال من أجل استقلال الوطن، فواجه أيضا المنظومة الكولونيالية بالحديد والنار، دفاعا عن الكيان المغربي الحر والمستقل.
*أجيال الستينات والسبعينات والثمانينات، التي افتدت الوطن بأجمل ما امتلكت من ذخيرة شبابها، وفضلت برودة الزنازين ووحشتها وظلمتها واغتراب المنافي ونيران سياط الجلاد، دفاعا عن مغرب حر تماما؛ منخرط بكل مؤسساته في سيرورة حركية التاريخ الحديث. ورغم القسوة الجحيمية لتلك الفترة؛ تبعا لجروح كل شظايا الصدام المدوي مع أجهزة الحكم، فقد أنتجت للمغرب أعظم الرجال وأهم السياسيين وأنقى المناضلين وأجمل الفنون وأخصب النتاجات الأدبية وأعمقها وأشهر الفلاسفة والشعراء والكتاب؛ وتبارت هنا وهناك المشاريع الفكرية والأيديولوجية؛ وانبعثت الأطروحات الثورية بكل رؤى رومانسيتها الحالمة.
أيضا، ورغم شدة الحصار اللاإنساني للاستبداد وفظاعة تسلطه، بحيث لم يرحم بشرا ولا شجرا ولا شيخا ولا طفلا، فما زالت رواسب تلك الفترة تمثل في اللاوعي الجمعي لدى المغاربة، الذين عاصروا تلك الفترة أو قضوا خلالها ردحا من حياتهم، بمثابة الزمن الجميل الذي تكرست فيه ممكنات الأسباب التي بوسعها وحدها جعل الحياة قابلة لأن تكون حياة.
*جيل التسعينات، وقد تمثل أساسا فيما تبقى من أنفاس الجيل السابق، تتقاذفه من الناحية السيكولوجية ثلاثة سياقات أساسية:
-انهيار المنظومة الأيديولوجية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتراجع مشروع مجتمعي بأكمله؛ من ثمة بداية الحديث عن انقلاب نوعي، غيَّر مسار المفاهيم الكلاسيكية والرؤى والتصورات القابلة للتحقق، مع بداية تشكل الملامح الأولى لمرتكزات العولمة.
- ولوج ''الزمان'' المغربي نوعا من الهدنة السياسية، بالتوافق ضمنيا على تعاقد جديد؛ يقوم على استتباب النضال الحزبي التقليدي ضمن الهامش الديمقراطي وتحصين المكتسبات التي تحققت غاية اللحظة.
- بداية التجلي الملموس؛ لسلبيات ما عرف بسياسات التقويم الهيكلي، التي دشنتها أجهزة الحكم منذ بداية الثمانينات،على المرافق المجتمعية الأساسية.
إجمالا وبناء على ما سبق، يلزم التأكيد بأن أغلب شرائح تلك الأجيال؛ واجهت صعابا حياتية جمة، في غاية الضيق وعرفت مختلف المحن التي قد لا تخطر على ذهن كائن بشري. هكذا، تمكنت من خوض أطوار المواجهة الشجاعة مع فداحة الخسائر أو قلتها، بفضل صلابة الشخصية التي خلقتها من جهة المحن؛ ثم قوة إرادة التطلع نحو جغرافيا وطن يبعث الحياة كل يوم، مثلما لا يتوقف في ذات الآن، عن تشييد أسوار عالية جدا حيال أسباب تهيئ موتا مجانيا لأبنائه.
ثم نصل إلى جيل الألفية الثانية والثالثة، وقد اختلف بنيويا سياقه عن الأنساق السابقة؛ معرفيا وإيتيقيا. جماعة لم تختبر فعليا هزات كبيرة، ولم يعاين أفرادها عن قرب؛ حروبا ولا مجاعات ولا أوبئة ولا تجليات مباشرة؛ فورية، لاحتقان حاد بين الدولة والمجتمع. جيل، تفتق وعيه تبعا لثقافة الطفرة التكنولوجية الناعمة والمخملية، المحكومة مطلقا بروح الجاهز، إن صح التعبير؛ التي اختزلت العالم برمته إلى لمسة زر طفيفة جدا، لا غير. جيل، استمد مقومات مناعته البيولوجية والفكرية، ضمنيا عبر ثقافة العولمة، من قيم النموذج الحياتي الأمريكي، الذي يشتغل على نمط إيقاع رهانات بورصة وول ستريت.
جيل، استمر غاية صفعة كورونا المدوية، غير المتوقعة بتاتا؛ في إدراك الواقع المادي باعتباره مجرد افتراض رقمي، سريع التحقق حسب أهواء الأنامل؛ ترسمه وتمحوه شاشات الحواسيب والهواتف الذكية، بحيث الواقع هو عينه لعبة بلاي ستيشن Playstation .
إذن، صرنا أمام معادلة جديدة؛ بخصوص علاقة الافتراضي بالواقعي:
الواقع الافتراضي؛ يجد نفسه فجأة حيال مواجهة واقعية بالمطلق، مع عدو مفترض غير واقعي. فأين ينتهي الافتراضي وأين يبدأ الواقعي؟