السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

من ينصف العمال؟/ بقلم: عبد الله لحلوح

2020-04-01 08:46:06 AM
من ينصف العمال؟/ بقلم: عبد الله لحلوح
عبد الله لحلوح

     

 عمَّالُ فلسطين، شتلةُ العطاءِ التي مدَّ لها اللهُ جُذورًا في تربةِ هذه الأرض، وقدَّرَ لها أنْ تنمو بعَرقِ الجبينِ، وأنْ ترتفعَ أغصانُها إلى حيثُ مسالك النجوم، لتظلِّلَ جباهَنا الناعمة، ووجوهَنا الملساء، وأيادينا الطريةَ التي لا تعرفُ ملمَسَ الغبار. هؤلاءِ العمال الذين اشتقّوا من خيوط الفجرِ الصادقِ قصيدةَ الحياة، والذينَ شكَّلوا من تقوُّساتِ ظهورِهم وهم يحاورونَ الرملَ وخشب الطوبار قوسَ الكرامةِ والعزَّة، هم البيرقُ الذي ارتفعَ على رؤوسِنا ونحنُ نحاولُ النهوضَ عن مصطبةِ الحَبْوِ الأوَّل، يدلفونَ إلى قلوبِنا، فيُكْرِمونَ وفادَتَها، وتَحولُ عزةُ نفوسِهم دونَ إراقةِ الماءِ الساخنِ في وجوههم، هم الوردُ البهيُّ الخارجُ من أشواكِ الزمنِ الرديء، لهم انفعالاتٌ في سطورِ النصِّ الأنقى، ومن نبرةِ غنائِهم تعلَّمَ الحادي نظمَ العتابا وجرَّ الأوف الطويلة، ومن صباحاتهم التي لا تعرفُ السكون، ضجَّ صمتُنا غيرةً وخجَلًا، ومن انتظامِ وقعِ أقدامِهم على بواباتِ ما يُسمَّى بالمعابر التي رفعَ بُنيانَها الآخرُ الغريب، أصغى الشعراءُ إلى ترويدةِ الكفاح، ورسمَ الفنانُ لوحةَ الأملِ الذابلِ في عيونِهم التي لم تأخذ حصَّتَها من الليل، وعزفُ الموسيقارُ الحديثُ سمفونيةَ الانتظارِ المُرِّ على عتباتِ بيوتٍ ظلَّ صغارُها ينتظرونَ ما جلبتْه الأيدي الخشنة.

إلى عمَّالِنا رأس حربتنا في مواجهةِ العاديات، وشريان الفرَحِ في حناجرِ الصغار، وشلال الأملِ في وجوه الكبار، إلى هؤلاءِ الذينَ أقعدَتْهُم الجائحةُ في البيوت، فصاروا أغنيةً تُردَّدُ بألحانٍ قاسية، وصاروا مصدرًا من مصادرِ إزعاجِ طاقاتِنا النائمة، فحرّكوا أقلامَنا الراقدة في مياهٍ راكدة، وصبَّوا حبْرَنا الملغوم على ورقٍ مصنوعٍ من موادَّ ليست واضحة، إليهم نقول بكلِّ انحيازٍ إلى أرواحهم التي تآكلتْ وهم يذرعونَ الأرضَ بحثًا عن حياة، إليهم نقولُ الكلامَ المقدَّس: "وقل اعملوا فسيرى الله عملَكم ورسوله والمؤمنون". ولقد عملتُم منذُ أنْ كانَ النبضُ الأول يدبُّ في قلبِ هذه الأرض، وها أنتم اليوم تحترفون الانتماء، فتعودون مُصغينَ إلى وحيِ الرسالةِ الوطنية، ملتزمين بيوتكم التي اشتاقت لأنفاسِكم في قرِّ الشتاء، وإلى نسائمِ أرواحِكم التي تخففُ من هجيرِ الزمن.

في مثلِ هذه الظروفِ الصعبة، يعيشُ عمالنا البواسل حالةً لا يُحسدون عليها، لكنَّها الجائحة التي اجتاحت كل مكونات الأرض، إلا أنَّ هذه الفئة المبجَّلة من أبناء شعبنا، وعلى ما أصيبت به من توقف مصادر دخلها، إلا أننا نرى ونسمع ونقرأ ما تقذفه بعض الجهات عن قصد أو عن غير قصد، بعض الاتهامات التي وصلت إلى درجةِ التنمر بحقِّ هذا الجيش العظيم، وإنَّه لما يخالف المنطقَ أن نجلدَهم بهذه السياط الحاقدة، وأن نسكبَ الزيتَ على نارِ قلوبِهم، فكفاهم ما هم فيه من محنة، ولنحوِّلْ انتقاداتِنا لهم إلى منحةٍ، إنْ لم تكنْ ماديةً، فلتكن معنوية، وإن لم نستطِعْ فلْنَلُذْ بالصمتِ وذلك أضعفُ الاحترام. أليسوا هم من تجرعوا عتمةَ الفجر وهم يصعدون إلى قمَّةِ البذل، أليسوا هم من داسوا على بساط الابتذال الذي تغطّى به كثيرٌ ممن يدَّعون هوايةَ المواطنة؟ ألا يليقُ بهم اليومَ أن يسمعوا كلمةَ (شكرًا) وهم يبتغون فضلًا من اللهِ ونعمة؟

ويبقى الموَّالُ الذي لمْ يُغَنَّ بعد، يبحثُ عن حنجرةِ تطْلِقُهُ بصوتٍ جهوَريٍّ جميل، لنتساءلَ عن مصائر هؤلاء العمال، وَمَنْ سيفكِّرُ بهم، وأيُّ أيْدٍ بيضٍ ستمتدُّ إلى موائدهم، لتقدِّمَ لهم خُبْزَ الفداء؟ فكلُّنا نعرفُ أنَّ الظرفَ عصيبٌ، وأنَّ الأزمةَ قاسية، ولكن بإمكانِ كلٍّ منّا أن يفردَ لهؤلاء العظماء مساحةً في وعيِه، وأن يفكِّرَ بهم عمليًّا، لنتحَّسس احتياجاتِهم، ولنقف إلى جانبِهم، ولنُسمعهم كلامًا يعبِّرُ عما جُبِلْنا عليهِ من جميلِ الخصال، وعظيمِ القيَمِ الإنسانية، ورحمَ اللهُ مَنْ نظَرَ إليهم بعين التقدير لا بعين التذمُّر والتنكُّر.