الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الروائي جوزيف كيسيل في سوريا: حكايات رحلة سنوات العشرينات (3 /5)

ترجمة: سعيد بوخليط

2020-04-02 09:11:16 AM
الروائي جوزيف كيسيل في سوريا: حكايات رحلة سنوات العشرينات (3 /5)
الروائي جوزيف كيسيل في سوريا

 

 مقدمة المترجِم:

"من يفسر لماذا نُقتل ومن يقتل؟. في الحقيقة، إذا كان من عذر لافتقاد المعلومة، فبوسعنا البحث عنها ضمن التعقيد المرعب الذي يسود سوريا''، هذه الجملة المكثفة والمركزة جدا، قدر استشرافها البعيد المدى، انطوت عليها إحدى فقرات كتاب جوزيف كيسيل، الذي يعود تاريخه إلى أواسط سنوات العشرينات.

المفارقة المدهشة، رغم قدم المسافة بعقود طويلة، فبالتأكيد، عبارة ما زالت تنطبق حتى اليوم، ربما تمام الانطباق، بدون مبالغة، على ما تعانيه سوريا: تبلور أعتى مستويات اللا-معقولية، التي يعجز أي ذهن بشري عن تمثلها. إذن: لماذا تعاني سوريا ما تكابده؟ لماذا يقتل الناس هناك؟ من القاتل؟ ثم أساسا وقبل كل شيء ما دواعي ومبررات القتل؟ حتما، العبقري كيسيل استبق غفلتنا جميعا.

جوزيف كيسيل J .Kessel ، الكاتب الفرنسي المزداد في الأرجنتين. هو الواحد المتعدد، ثم المتعدد الذي وجد ضالته في الواحد: الروائي طبعا، الرحالة، المغامر، الصحفي، الطيار الذي شارك إلى جانب السلاح الجوي خلال الحرب العالمية الثانية، ثم المتخصص في الريبورتاجات.

أغنى التراث الإنساني، بمنجز فكري هائل، قارب سبعين رواية، إضافة إلى دراسات مختلفة تهم مجالات إبداعية متعددة. مع كل ذلك، ما زال حتى الآن، فقط عنوانا رئيسيا أشار ويحيل باستمرار على كيسيل، مقارنة مع باقي كتاباته.

يتعلق الأمر بروايته ''الأسد' '(1958) التي دارت أحداثها في منتزه ملكي بكينيا، وتروي تفاصيل علاقة جد مدهشة تتجاوز حدود التصور، بين باتريسيا الفتاة الصغيرة ذات العشر سنوات، وأسد. إذن، كلما ذكر اسم جوزيف كيسيل، اتجه التفكير مباشرة نحو تلك الرواية.   

بين ثنايا بيبليوغرافية زاخرة ومستفيضة، يندرج كتيب صغير، ربما لم يكن ليثير اهتمامي حقا، لولا انبجاس التراجيدية السورية. نص: في سوريا، الذي كتبه كيسيل سنة 1927، موثقا من خلال فصوله العشرة وقائع ما عاشه أثناء رحلته لسوريا. غير أنه عمل، تجاوز مستوى الانطباعات والارتسامات الشخصية، المنقادة  وراء التقاط محايد لمتواليات رحلة عادية، مرتقيا حقيقة غاية التقييم الموضوعي الحاذق لجوانب من سياق المرحلة، المعروفة تاريخيا بالانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان (1920-1946)، وما انطوى عليه من منزلقات سياسية وجغرافية وثقافية وإثنية وعسكرية، استمرت وامتدت تراكماتها البنيوية حتى الزمن الراهن. 

بالتالي، يعتبر ما يحدث اليوم في سوريا مجرد نتيجة طبيعية، لما أرسته صياغات المرحلة التي يؤرخ لها كتاب كيسيل.    

بالتأكيد، كما أقرت مختلف اجتهادات المؤرخين، يصعب عموما استيعاب الحاضر دون إحاطة بالماضي. فالمآلات الجنائزية التي يسرع نحوها العالم العربي، سياسيا وثقافيا ومعه سوريا، تعود بأصولها إلى جرائم المنظومة الاستعمارية في حق عقل وجسد وروح وشعور وطموح شعوب المنطقة.

غير أن ما جسّد بامتياز هذه المعادلة في التحقيق الصحفي ل كيسيل عن سوريا، الذي يعود كما قلت إلى سنة 1926، وأضفى على خلاصاته سمة كهنوتية تخمينية جعلت فقرات عمله أقرب إلى إشراقات العرَّافين والمتنبئين، كونه استحضر منذئذ رؤى ألغت تقريبا كل هذه المسافة الزمانية الممتدة إلى تسعة عقود، وبدا الراهن كالأمس تماما.

المشهد العام نفسه، ثابت لم يتبدل، فقط تغيرت التفاصيل الصغيرة. تفسير هذه المسألة في غاية البساطة: مبدع بحجم كيسيل، يمتلك ما يكفي من الذكاء والعمق والموسوعية والبصيرة والخبرة الحياتية والحس الإنساني، لا يمكنه حتما سوى أن يكون صاحب حدس مبشر ونذير.

لكن خاصية دافع العشق، والتعلق الحميمي بالموضوع، يجعل الأفكار شفافة وصادقة. كيسيل عاشق لجغرافية مكان رحلته، أي الشرق. شرق، تحسس سلفا أولى عطوره وهو طفل في سن الثامنة على ضفاف الأورال، مترقبا بشغف عبور قوافل بخارى وفارس، يقودها القرغيزيون: ((أعشق الشرق، هو ليس بعذري الوحيد للرغبة في التكلم عنه، لأني لا أعرفه جيدا. إننا لا نذهب إليه، وينبغي أن يأتي إليكم، مما يقتضي وقتا. والحال، أني قضيت خلال مرتين، ما بين ثلاثة إلى أربعة أسابيع، في سوريا. هذا، كل شيء. ثم، ابتغيت أن أعيش التجربة صحفيا، بمعنى قضاء أغلب يومياتي مع جنرالات وموظفين كبار)) (ص-10). 

لقاءات هنا وهناك، أثمرت بورتريهات رصدها كيسيل، بدقة محترف الكتابة، القابض على زمام الحلقة المفقودة، الفالتة بين الواقع والخيال، بمعنى ثان، التأرجح بين البعد التقريري للغة الصحافة ثم الحس الفني المحلق لأفق الروائي، الأكثر تكثيفا وزخما ورحابة.    

سنقف على وجهات نظر، ونتابع بعضا من يوميات شخصية عسكرية ومدنية، تصنع الحدث في المنطقة: الأمير عبد المجيد، القسّ، القائد كولي الصغير، بوشيد، لابان، القائد مولير، مزود، دحّام، الدروز، الشركس. مثلما، أننا سنكتشف منذئذ، الأمكنة التي ندمن حاليا فواجعها كل حين، حد الهستيريا: دمشق، درعا، السويداء، حلب، دير الزور، تدمر.  

سوريا جغرافيا في غاية الجمال والثراء والعطاء، منبع الحضارات. لكن أيضا بنية طائفية وإثنية معقدة، تَعكَّر صفوها زيادة، واستفحل أمرها، بسبب مساوئ إدارة الانتداب الفرنسي وتبعاته، فأضحت جحيما للنعرات عوض أن تكون رحمة للاختلاف، جعلها لبنة للحرب الدموية التي تدور رحاها اليوم.

.يقول كيسيل: (( سوريا، مهد الحضارات ومكان العبور المختار منذ الأزل، أثر ثراؤها وجمالها، دون تدخل، في كثير من الشعوب. هذه الأرض، حيث تنمو بقوة ملتهبة، الاعتقادات الأولى، وكذا الهرطقة، التي تضلل وتخلط. أعترف بتواضع، أني لم أستوعب خلال أولى أيام إقامتي في بيروت، شيئا بخصوص ما يتداول أمامي من أحاديث كان مصدرها العلويون، الهاشميون، الموارنة، السنة، الشيعة، اليونان الأرثوذوكسي، الطائفة السورية-الفلسطينية، قطاع الطرق، المتمردون وكذا دروز الجبل ودروز حوران، اللبنانيون والسوريون والدمشقيون، إلخ، فكيف يعترف بعضهم ببعض؟ تضم سوريا، سبعة وعشرين ديانة، تمثل كل واحدة منها قومية، ويلتمس هذا السديم التأثيرات الأكثر تنوعا، روحيا وماديا. مع ذلك، بعد انقضاء أيام قليلة، بدأت أتمكن من قراءة كتاب الطلاسم هذا، الذي يبدو مستعصيا على الفهم. تتبدى الخطوط الكبرى، بلا شك، بالتبسيط لا يمكن أن نعرض كل المشهد، لكنه الوسيلة الوحيدة لكي أفهم وأعبر عن ما فهمت؟)) (ص-14).

رحل كيسيل نحو سوريا، مفتقدا لأي مرشد نظري، أو مرجعية قبلية، قد ترسم له خريطة طريق: ((سوريا؟ ماذا نعرف عنها؟ لنعترف بالأمر، دون كبرياء مزيف: فقط بعض الوقائع التاريخية المبهمة، حول الحروب الصليبية، ثم بعض الصفحات الشهيرة، والأسماء الجميلة لدمشق وتدمر والفرات. ذاك، كل زادي بالنسبة لبلد كبير وخصب، يعيش تحت الانتداب الفرنسي. لكن، من يبين أهمية هذا الانتداب؟ ثم بوسعه أن يرسم- اللهم إلا مختصين قليلين- المظهر السياسي لهذا البلد؟ من يفسر لماذا نُقتل ومن يقتل؟. في الحقيقة، إذا كان من عذر لافتقاد المعلومة، فبوسعنا البحث عنها ضمن التعقيد المرعب الذي يسود سوريا)) (ص-13-14).

لكنه، عندما عاين وخبِر ولامس على أرض الواقع، صحبة الجنود حيثيات المعارك وجوهر الصراعات السياسية، تحول بعمله هذا من مستوى الريبورتاج التسجيلي العادي، وكذا الرحلة العابرة، إلى التقييم النقدي لنظام الانتداب، وتحميله في الأخير ساسة فرنسا، مسؤولية الأخطاء المرتكبة التي كرسها الزمان وتماهى معها المكان. 

سنتابع وقائع رحلة جوزيف كيسيل إلى سوريا، من خلال هذه الحلقات...      

المدينة الواقعة تحت الأرض   

 ذات ليلة، وأنا أتأمل من داخل المطعم، تلك المصابيح القليلة التي تضيء مرفأ بيروت المظلم، اقترح علي بوشيد المدير الشاب لجهاز الأمن السوري، ما يلي:

-هل تريدون مرافقتي؟ أظنه أمر سيهمكم.

تعقبتُ بوشيد دون تردد، لأني أعرفه لا يقدم وعودا مجانية. هذا الفتى الرشيق، صاحب وجه متناسق الملامح، وأسنان لامعة، لا يدين بوظيفته إلا لمثابرته وشجاعته وذكائه. متواضع ومستقيم، ينتمي إلى هذا الفريق الذي لا يضاهى، بحيث أدركت العبقرية المتوقدة، للسيد جان شياب، كيفية اكتشافه، وتنظيمه وتوجيهه. ثم، خاصة يعتبر بوشيد شابا.

حظيت ثقتي بمكافأة، تجاوزت أفق انتظاري، ما دمت سأتابع هذه الليلة، إحدى العروض التي يستحيل  نسيانها.

وسط  فناء مفوضية الشرطة المركزية، ينتظرنا فريق صغير: رجال شرطة بلباسهم الرسمي أو المدني. يخرج رجل من تجمعهم المرتبك، ويقترب منا.

-إنه السيد لابان، ضابط الشرطة الأول في بيروت، أخبرني بوشيد.

انحنى السيد لابان بكرامة. خاطبه بفرنسية سهلة ومنتقاة. تخفي العتمة ملامحه، لكنه حين خروجنا إلى الشارع، وتحت أنوار الإضاءة، بدت على العكس وضاءة. السنوات العديدة، التي قضاها ضمن صفوف البوليس التركي، جعلت منه شخصية حازمة. نظام بأكمله مستبد، ومرعب وبارع، يوجد تحت تصرف شخصيته المهمة والسمينة، بشاربيه المصقولين، والمرفوعين على الطريقة الألمانية. ترسل عيناه المخمليتان، تحت قبعته المصنوعة من فرو الحمل، بريقا فاترا ومرعبا. يلوي  على الدوام، بين أصابعه المكتنزة، هذا الكرباج، تارة مرتخيا وتارة نافذ الصبر. لا يمكننا مشاهدته دون أن يعود بنا الخيال إلى السلطان عبد الحميد، ومعه مآسي سرايا السلطان والأموات الصامتين. ربما، اختلفت مهمته تماما في بيروت، لكن الدم الذي ينتمي إليه والانضباط المكرس من طرفه يضعان توقيعهما على جهنم.     

-قال، سنذهب كي نجري عملية تفتيش في مدينة تقع تحت الأرض.

-هل المسافة بعيدة؟ تساءلتُ، وأنا أحدس طريق رحلة طويلة.  

-لا، على بعد خطوتين من هنا.

نظرتُ إليه باندهاش. نتواجد، في حي ببيروت، يتسم أكثر بطابعه الأوروبي. من بين المنازل المرتفعة، لا يتوقف صخب عربات الترام، ثم سيارات تتجنب المارة المرتدين للطرابيش الفاسية ويظهرون أوج لا مبالاتهم، كما تشير اللافتات الإلكترونية إلى أمكنة المتعة. فكيف بي افتراض، أن مدينة تحت -أرضية على بعد خطوتين.

تبسم السيد لابان، بلطف.

في الشارع الرئيسي للمدينة، انفتح الصدع، وقد كان دقيقا جدا، بحيث يمكننا المرور أمامه عشرين مرة، دون أن يثير انتباهنا. إذن، سيعبر فريقنا هذه الفجوة، بحيث ظننتني لحظتها داخل متاهة كابوس. ممرات أكثر ضيقا من أنفاق، جدران قوية، صالحة لقرون، أقواس قوطية سميكة، قبب ضخمة، مختلف ذلك يتشابك، ويتقاطع مع مسالك غير متوقعة، ومنافذ نحو آبار مظلمة، حيث نسبر تشعبات أيضا أكثر قذارة، واختفاء، مختلف هذا دون أية إضاءة سوى التي يبعثها القمر الناصعة والمصفرة، نلمحها أحيانا بين قنطرات صغيرة مظلمة.

فجأة، انبثق نور، عند مفترق طرق. بدت مقهى، نصف متوارية في الأرض، يضيئها بعنف غاز الأسيتيلين. أربعون رجلا تقريبا يجهزون مقاعد، ويدخنون في صمت النارجيلة. كانت ألبستهم بألوانها المتنافرة، وأدران طرابيشهم الفاقعة، أقل إثارة للانتباه مقارنة مع وجوههم. لون سحنة وزغب بشرتهم الأسود، ثم جلوسهم خلف الإضاءة الفظة للمصابيح، وضع يبعث في قلبك الرعب، حين إلقاء نظرة عليهم. ما يجذب الانتباه ليس شراسة نظراتهم، ولا تغافل الأفواه، بل نوع من التحامهم القدري بالجريمة. أشخاص على أهبة الاستعداد للقتل، بدافع الكراهية أو طمعا في مكسب، لكن أكثر بسبب شعورهم أن الله وضعهم في هذا العالم مثل سكاكيني يصنع سكاكين. هكذا، سيمثلون داخل مغارة علي بابا، الأربعين حراميا.

-إنهم شجعان بيروت، أشار السيد لبان. الذين ينفذون أوامر القتل. زعيمهم شخصية كبيرة ينتمي إلى المنطقة.

تابعوا مرورنا أمامهم، دون أن يحركوا قيد أنملة أجسامهم المفتولة العضلات.

-جماعة تعرف كيف تموت، واصل السيد لبان حديثه، ملوحا بسياطه. مؤخرا، شنق أحدهم نفسه. اقترب من المشنقة، ثم تناول الشريط المعقود، من يد الجلاد ومرره من وسط عنقه، كي ينتهي أمره سريعا. 

تابعنا سيرنا من جديد وسط المتاهة. لم تدق بعد الساعة التاسعة، مع ذلك، يحيلك فراغ الممرات، على مسالك مقبرة، ليلا. رائحة مقززة تغمر المكان، خُضَرٌ تعفنت، قذارة تراكمت طيلة قرون، أحجار متسخة، بول. لم يكن في مقدورنا، التقدم إلا ببطء، بمساعدة على وميض المصابيح الكهربائية. 

كان السيد لبان في المقدمة، ثم توقف تماما، وأطلق صفيرا. أسرع شرطيان، اختفيا وسط واحد من آلاف الدهاليز، التي تشكل هذا الحي الغريب. عندما رجعا، كانا يصطحبان شخصا يحمل كيسا على ظهره. بعد أن تفرس السيد لابان في وجهه، ودون أن ينطق بكلمة واحدة، صفعه. تبسم الثاني، فكشف فمه عن أسنان جميلة، ثم أدار له خده الآخر، فبادر السيد لابان كما لو يستعمل معه الواجب، إلى صفعه ثانية بكفه السمينة. ثم، بينما يقتاد رجاله الشخص، التفت نحوي وشرع يفسر إلي بنوع من الود المرح: 

-نعرفه جيدا. إنه أحد أكبر اللصوص. يختلق أدوارا طريفة جدا. تصور، ذات يوم، لمح قرويا شجاعا، منكبا يحسب بمتعة عددا من الليرات الذهبية، بعد أن باع محصوله. اتجه نحوه، احتضنه، وقبّله، صائحا في وجهه: (( كم أنا سعيد،لقد عثرت عليك أخيرا، يا ابن أختي، بعد سنوات طويلة من الفراق. وأمك المسكينة، ليكون الله إلى جانبكم جميعا!)). تملص القروي من ضمته، مفزوعا: ((آه! داهمه صاحبنا، اسمح لي لقد التبس علي الأمر، إنك تشبهه إلى حد كبير)) ثم، انتشل منه الليرات الذهبية… آه ! آه ! انتظر قليلا.

توقف السيد لبان عن الكلام، ثم شرع يتشمم  الهواء، على طريقة كلب صيد.   

- همس: رائحة حشيش.

هكذا فقط  تبينت حيثيات المدينة، الموجودة تحت الأرض. انطلاقا، من تحت المتاهة وصولا إلى سطح الأرض، توجد أرض ثانية، تقود نحوها سراديب مزحلقة، محفورة وسط سمك الجدران، ثم تنخفض جدا، بحيث يستحيل السير وسطها، دون أن تطوي جسدك إلى نصفين. رطوبة عفنة ترشح على امتداد الأحجار، ودوي أصوات وقع الأقدام بشكل محزن جنائزي تحت الأقبية، ثم يغمرها  نَفَس مثل حشرجة.

هنا عاينت أشباحا أو هلوسات حقيقية. يقفون بكيفية مقوسة، وسط مشكاوات، ضيقة ومظلمة جدا بحيث لا أحد، بوسعه أن يرصدهم، سوى  السيد لبان. تحت نور مصباحه، يظهرون بغتة، بأشكالهم البدائية. فكيف، بوسعنا أن ننعت بشكل ثان أجساما نصف عارية، نحيفة حدّ العظم، وهذه الوجوه بعيون مغلقة، ومناخير مضمومة، وشفاه مفتوحة قليلا؟ متجمدين في أمكنتهم، متوارين خلف حلمهم القذر. اقتضى الأمر، ضرب أطرافهم بالكرباج، بكيفية مبرحة جدا، لاثنين أو ثلاث مرات، قصد إرغامهم على الخروج من خمولهم. عيونهم الذابلة، تهيم نحو رجال الشرطة، دون استيعاب لما يجري. أحيانا، يرغبون في الكلام، بيد أنهم يعجزون تماما. اقتادوهم، متعثرين مذعورين، ثم لا يدركون أنهم قد شرعوا في السير.

أتذكر خاصة، فريقا من ثلاثة أشخاص. لم يستوفوا بعد الجرعة الكافية، لكنهم فوجئوا بحضورنا لحظة تجمعهم حول نارجيلة، محشوة حشيشا. ما زالت حتى اللحظة، تردد أذناي، نواحهم وكذا تضرعهم. لم يتوسلوا، كي لا يلقى بهم في السجن، بل مجرد السماح لهم بإتمام جلستهم. حينما، رأوا بأن الشرطة استولت على أجهزتهم، أصابهم إحباط، استمر طويلا على امتداد المدينة التحت- أرضية، في صيغة صرخات حادة.

طيلة ساعة، انتقلنا إذن، عبر مختلف الممرات و الحجرات، ومن مشكاة  نحو ثانية. أدخنة، بيوت مشبوهة وبيوت مغلقة.في كل مكان، نفس المتعة الكئيبة، وذات  الصرخات والأشباح. أخيرا، ولأن تجلّد ضميري بلغ منتهاه، فقد التمست الانسحاب. 

صعدنا من جديد، نحو المتاهة العليا. وراء ستار، بلون رماني، يعرض خباز أرغفة عربية صغيرة، خرجت للتو من الفرن. تنبجس شجرة سرو، تشبه فوارة معتمة، من فناء صوب سماء الشرق الكبيرة. ثم عبر النافذة المفتوحة لمنزل، يقبع تحته جحيم حجرات تطوي شهوة ملعونة، نسمع طفلا يئن وصوت امرأة تحاول تهدئته بأقوال غامضة.  

ملِك البلدة 

هكذا، في كل الدروب التي تعبرها القوافل، يسترعي انتباهنا، مولير قائد الهجَّانيين السوريين.

تعرفتُ عليه في دير-الزور، مدينة بدوية، تقع على امتداد الفرات، تلتهم أحياؤها الشمس، وتطويها منازل بيضاء. وصلتُ بالطائرة من مدينة تدمر، لتناول وجبة الغذاء، في النادي صحبة فريق من الطيارين. إنها، أحد أجمل ذكرياتي، لأنها منطقة في العالم، تشعرك دائما بالسرور، مهما الأحداث التي يمكن أن تعرفها. حاولتُ إخبار من كانوا في سوريا، أني لن أعود إلى هناك، سوى بهدف تقديم الشكر لهؤلاء الشباب، الشجعان والفتيان المرحين بأسلوب استقبالهم، ثم لأكرر لهم، أن فرنسا لن تستطيع أبدا أن تظهر ما يكفي من الاعتزاز بهؤلاء ''الرجال -الطيور'' القابعين في الشرق.

أثناء وجبة الغذاء، مع أصحاب الذقون الحليقة، جلس أمامي رجل بلحية صهباء، تغطي غاية النصف نسيج الصدرية. يتكلم ببطء، بنبرة صوت مهموسة قليلا، لكن مختلف ما يصدر عنه كما لو عفويا، يثير الانتباه بحكمته وصوابه. يكشف بريق عينيه على أقصى درجات الفطنة، وكآبة مسهبة في ذات الآن. حينما، قام من الطاولة، لاحظتُ أقدامه حافية، مع أنه يرتدي نعلا بدويا، شبيها بأحذية رياضية الجلدية.

-أنت من تحب الحكايات، بادرني بالقول أحد الطيارين، تحدث إذن، مع القائد مولير، لقد عاش في الصحراء طيلة ست سنوات، يعرف العربية بنفس مستوى الفرنسية، وصار بدويا حقيقيا.

توخيت تطبيق النصيحة، لكن البداية لم تكن جيدة.

-التفتت نحوه بالتساؤل، بالتأكيد أيها القائد، أنتم الذي أظهره الكاتب بيير بينوا، بأوصاف الجندي ''الهجَّان ولتر'' في روايته: "سيدة القصر اللبنانية"؟.

قطب القائد مولير حاجبيه، ثم أجابني، بنبرة مختزلة:

-من فضلك، لا تتكلم  عني.

في الحقيقة، لم أتمكن على الرغم من كل جهودي، أن أستوضح أي شيء عنه.لكن الاحترام الودِّي، الذي يحيطه به رفاقه، ثم الثقة التي تتبدى مع كل حركاته، رغم تواضعه وتوهجه، اللذين يتعذر تحديدهما، والمميزة للقائد، وحدها كفيلة بالتكلم عنه.

فيما بعد، علمت أنه قاد حملة على إقليم كيليكيا، من خلال قيادته لعدد قليل من الجنود الهجَّانين، بغية تأمين المنطقة الصحراوية التي يسيطر عليها، وبأن شجاعته ودهاءه وكياسته، كرست اسمه على امتداد تخوم الصحراء السورية.

إلى غاية اللحظة، اقتصر تجاوبه على الرد التالي:

-تعال عندي هذه الظهيرة. سأجتمع مع بعض كبار رؤساء البدو، حاول استفسارهم عن بعض الأسئلة، الأمر الذي سيمكنكم من الإحاطة بالأمور، أفضل مما بوسعي أن أرويه لكم.    

كان المنزل العربي للقائد مولير، المتواجد في أطراف دير-الزور، مضيافا. توجد عند المدخل حديقة في غاية الاعتناء، ثم تفتح  أمام الزائر غرف واسعة مفعمة بالنداوة.

ولجت مكتب القائد، فوجدته مجتمِعا مع بعض ضباطه، وقد تمددوا نصفا، على أرائك مغطاة بسجدات صحراوية بسيطة، يقابلهم في الجهة الأخرى، رجل كهل وشاب، العم وابن الأخ، مزود زعيم قبيلة عنزة، ودحّام زعيم قبيلة شمر.

جنود هجّانون، صامتون ورشيقون مثل  قِطع برونزية قديمة، أتوا من نجد والحجاز واليمن، يقدم بعضهم لبعض، السجائر والقهوة البدوية، التي أضفت عليها نبتة عِطر فارسية، مذاقا للفاكهة عجيبا ولذيذا. 

يطوي السيد مزود، أقدامه تحته، والرأس ثم العينيين ممتلئين بالخديعة، لا يتكلم قط. تعهد بهذا الأمر إلى ابن أخيه، لكنه بين الفينة والثانية، يعضد بصوته المنهوك ما يقوله الشاب.

كان الأخير، جميلا بشكل آسر. ينحدر من سلالة نبيلة بأكملها ونشيطة، غير أن أفرادها لم يتصببوا أبدا عرقا حين اتصالهم بالمدن، ولا مارسوا وظائف معيشية، بل تغذوا على امتداد قرون من الفضاء والسماء، بالتالي استطاعوا استثمار أفضل مكوناتهم في شخصية دحام، قائد محاربي شمر. دقة ملامحه وكذا ارتباطاته، كانت على منوال، النماذج التي نراها في المنمنمات عن أمراء المشرق. يداه، موضوعتان بعناية على ركبتيه، دون ارتعاش. سكون وجهه يقر بنقاء لاذع: جبهة ملساء، يغطيها ''عقال'' بضفائر سوداء، أنف معقوف ومرسوم على نحو دقيق، فم أحمر، دقيق، يضحك بكبرياء، وعينين رائعتين، كأنهما بقعتي سيليكون ملتهبتين، محاطتين زرقتهما بالكُحْل.  

تنحدر قبيلته من العراق، لكن عندما تعرضت للإهانة من طرف الانجليز، أصدر أمره لطي الخيام، ثم لحق به آلاف المحاربين صوب سوريا. هذا ما شرع يشرحه إلي، بواسطة مترجم. يستحضر جملة بصعوبة، ثم يأخذ مساحة زمانية كبيرة بين جملة وأخرى. بدا  جليا، عدم اعتياده على ترجمة أفكاره إلى أقوال، وبأن هذه الأفكار لا حدود معينة لها، تماما كما يصنع مع الأراضي التي اعتاد على اجتياحها.

أيضا، كان حديثنا طويلا، يتخلله للحظات معينة، صمت وتأملات. أحيانا، تأتيه صيغة سعيدة وبارعة، لكن خاصة تناسب سياقها، تؤكد بأن قلة كلام دحّام، يعود لكونه ينحدر من شعب راق ومولع بالتأمل.  

لذلك، حينما سألته:

-هل تحب الإنجليز؟

أجابني:

-أقر، لهم بفضل، أنهم أجبروني على معرفة الفرنسيين.

أو كذلك:

-لدينا محاربين يفوق عددهم عدد السيوف. لكن، هذه العبارات المجامِلة، أو المزهوة، كانت نادرة. تذهب بأقوال دحّام، الاعتراضات كثيرا، وإذا أوردتها ثانية بأمانة، فلأنها تكشف أولا عن سيكولوجية عِرق ثم تتجلى خاصة عبر لسان هذا القائد، رغبة شعب من البدويين، بوسعه أن يرص أمامه البنادق بالعشرات بل وعشرات الآلاف.

-لا نريد، يضيف، أن تكون لنا قضايا في المحاكم. نجهل، اللهجات الإقليمية للكتبة والقضاة. إننا، لا نذهب قط إلى المدن، بالتالي، فليتركوننا نتدبر شؤوننا وفق ما جرت به أعرافنا. هي جيدة، ما دام  قد امتثل لها دائما أبناؤنا. نفضل أن نخسر ألف ناقة (كل ناقة تقدر بأربعة ألف فرنك) بدل التوجه إلى محكمة. فليتركوا أعرافنا في سلام.

-فليحترموا أعرافنا، كرر الشيخ مزود.  

-ينبغي، أن يوفروا لنا مُدَرِّسين، حتى يصاحبوننا في ترحالنا، استدرك  دحّام. يطلب الفرنسيون منا، إرسال أولادنا إلى المدرسة. ماذا يقع؟ يتعود أطفالنا على المدينة، وينسون قبيلتهم، فتبقى خيمة الزعيم بلا روح. لا، ليس ممكنا. في العراق، أقام الإنجليز مدارس بدوية.

-أن لا يمنعوننا من القيام بـ''غزوات''، بحيث يلزم المحاربين الشباب، تعلم كيفية توظيف البنادق، واستعمال السيف. تطرد النساء الشباب، في حالة رفضهم الذهاب إلى الغزو. ثم، إن الرصاصات تنطلق من ذاتها، إذا لم تكن ضد البدو الأعداء، فستكون ضدكم.

-احترموا الزعماء، وإلا فلن تنعموا معنا بسلام القلب. يحب رجالنا زعماءهم، هكذا تكرس التقليد. لذلك، إذا أصيب واحد منهم، فكأنهم أصيبوا جميعا. لا ينبغي، من أجل خطأ طفيف، وضع ابن الزعيم في السجن، مثلما حدث مع ابن مزود.

بغتة، عادت الحياة إلى الشيخ. تنطفئ عيناه وتلمع، بشرارات نار قاسية، ثم صار صوته أكثر حدة.

-نموت جميعا، صارخا، حتى انقراض آخر شخص في جماعتنا، ولن تُمس عاداتنا. أيضا، نحن لسنا بعبيد مرتبطين، بأرض أو جدران. يمكننا أن نجمع خيامنا، والرحيل، لكن مقاتلينا سيعثرون ثانية على مكان الإساءة.

أثبت دحّام هذا الكلام، بتحريك رأسه، ونفس الكبرياء الشرس، يدفعهم كي يكونوا أحرارا، مثل ريح الصحراء، بعدم الارتهان لأي شيء أو شخص.

-لكن، على أية حال تساءلتُ، كيف ترتبون أواصر علاقاتكم مع فرنسا؟

-نحب ونحترم فرنسا، أجاب، لكننا لا نريد الخضوع سوى لزعيم يعرفنا، يستوعب عاداتنا وتقاليدنا، نأتمر بكل قراراته، ثم يعم السلام والرضى على امتداد كل البلد. إذن، شريطة وجود زعيم كبير يحظى بثقتنا.   

تركزت، نظرات الشاب دحّام والشيخ مزود، كما ولو سهوا، على القائد مولير، الجامد على طاولته لا يتحرك ولا يتكلم قط، وقد بدا بلحيته الكبيرة، كأنه أمير عربي ثالث. 

 (يتبع)

*المصدر :

           *Joseph Kessel : En Syrie ;Gallimard ;Succession Kessel ;2014.

         http://saidboukhlet.com/