حارب العلماء على مر العصور الأمراض المختلفة، وعملوا جاهدين على مكافحتها والقضاء عليها بعقاقير وأمصال، وقد تمكنوا من تصنيع علاجات أو لقاحات لكثير منها كالحصبة والجدري وغيرها، والتي أطاحت بملايين الأشخاص عبر التاريخ.
وللباحثين في الموضوع نجد أن الطاعون عدوى بكتيرية حادة تنتقل عن طريق البراغيث؛ والجدير بالبحث أنه كان من أكثر الأمراض انتشاراً وفتكاً عبر التاريخ، فقد عرف الطاعون في مصر القديمة خلال القرنين (16-17 ق.م) وربما قبل ذلك في روايات اخرى، وفي القرن (5 ق.م.) ظهر طاعون أثينا، الذي رجح العلماء أنه حمى التيفوس. وقد ارجع الناس سبب الأوبئة في ذلك الوقت إما لغضب الآلهة أو لسوء وفساد القادة، ويظهر ذلك جلياً في الملاحم اليونانية والأساطير، ولعل أبرزها ما كتبه الروائي التراجيدي سوفوكليس في مسرحيته "أوديب ملكاً" التي تظهر الفوضى التي عمت البلاد والصورة المأساوية لانتشار الجثث.
ولم ينته تاريخ الطاعون مع البشرية بل عاد للظهور في العام 165م باسم الطاعون الأنطوني نسبة إلى السلالة التي حكمت الامبراطورية الرومانية في تلك الحقبة، وقد قتل وفقاً لبعض المؤرخين زهاء ألفي شخص يومياً، وبعدد وفيات إجمالي ناهز (5 مليون) إنسان. وتلاه في الأعوام (251-279م) طاعون قبرص، ويشير عدد من الباحثين إلى أن كلا الوباءين لم يكن الطاعون بل الجدري أو الحصبة.
واستمرت معاناة البشرية مع طاعون جستينيان (٥٤١-٧٥٠م) إبان الامبراطورية البيزنطية، حيث اجتاح أوروبا وآسيا وأودى بحياة (٣٠-٥٠) مليون إنسان، وهو بحسب الدراسات يعادل نصف سكان العالم آنذاك، ويعتبر المؤرخين أن طاعون عمواس الذي أصاب بلاد الشام عام ٦٤٠م وقتل ما يقرب على 30 ألفاً، ما هو إلا امتداد له.
ويعود الطاعون مرة اخرى باسم الموت العظيم أو "الموت الأسود" في القرن (14م) أي بعد حوالي سبعة قرون ليقضي على 25 مليون شخص في أوروبا، وخاصة فرنسا واسبانيا وانجلترا، فيما وصلت الأعداد إلى (١٠٠-٢٠٠) مليون حول العالم، ويشير الباحثون أن الوباء جاء من الصين، ثم انتقل إلى ايطاليا بحراً ومنه إلى اوروبا.
ولم يكتف الطاعون من العالم فقد استمر طاعون لندن العظيم بواقع أربعين مرّة خلال ثلاثة قرون امتدت من (١٤-١٧م) وقتل 20% من سكان لندن لوحدها.
ولعل القرنين (16-17م) كانت الأكثر تنوعاً للأوبئة عبر التاريخ، فقد اصيبت آسيا واوروبا والأمركيتان خلال فترات متباينة بالطاعون والجدري والحصبة والتيفوس والحمى الصفراء، ويعتقد الباحثون أن فيروس الجدري وحده قتل ما يزيد على ٥٦ مليون إنسان عام ١٥٢٠، علماً بأن آخر الاصابات به كانت عام1980، حيث تم القضاء على المرض ومحوه من الذاكرة، فيما قتل الطاعون (1629-1631م) في إيطاليا وحدها 280 ألف إنسان، فبعد الآف السنوات من كونه وباءً عالمياً قاتلاً، بدأ ينحسر تدريجياً، بتوصل العلماء إلى عقاقير تحد من انتشاره، واليوم الطاعون يصيب أقل من ٥٠٠٠ شخص في العام.
ولكن حرب الانسان مع الأوبئة لم تنته، بظهور بكتيريا الكوليرا، التي تعدّ من أسرع الأمراض القاتلة المعروفة، فقد يموت المرضى المصابين في غضون ساعات من ظهور الأعراض ما لم يتم تقديم العلاج لهم، وقد ظهرت للمرة الأولى في آسيا واوروبا في الفترة (1817-1824م) ومنها انتشرت لتقضي على مليون إنسان حول العالم.
ولم ينته القرن التاسع عشر بعد حتى عادت الأوبئة لتجتاح الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا وأجزاء من اوروبا واستراليا هذه المرة، وكان أبرزها الكوليرا والجدري، حيث قتلت الكوليرا في روسيا وحدها خلال (1852-1860م) أكثر من مليون شخص.
ويمكن الجزم بأن الكوليرا ومنذ ظهورها قد أودت بحياة الملايين حول العالم، وحتى اليوم لم يتوصل العلماء لعقار شاف منها، ولا تزال تقتل (١-٤) ملايين كل عام.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وبالتحديد سنة 1889، اجتاحت الانفلونزا العالم لتقتل مليوناً في عام واحد، ومع بداية القرن العشرين وفي العام 1918م تظهر الانفلونزا الاسبانية، وتساعدها ظروف الفوضى في نهاية الحرب العالمية الأولى على التفشي لتصيب ربع سكان الأرض وتقتل (50-100) مليون منهم، ولعل المضحك المبكي أن الحرب ذاتها لم تقتل نصف ذلك العدد..!!
ولا نزال في القرن العشرين، حيث جاءت انفلونزا آسيا عام 1957 لتقتل 2 مليون شخص، وانفلونزا هونغ كونغ عام1968 لتقضي على مليون آخر.
ولا نغفل عن أول ظهور لفيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة (HIV) في افريقيا، والمعروف باسم الايدز، إذ وصل عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم منذ ظهوره عام 1981 وحتى اليوم قرابة 35 مليون، ولا يزال هذا الفيروس مشكلة عالمية رئيسة في مجال الصحة، حيث يقدر عدد المصابين به اليوم حوالي 38 مليون شخص، يضاف اليهم (1-2) مليون في كل عام.
وبالانتقال إلى القرن الحادي والعشرين ومنذ عام (2000-2009) اجتاحت العالم عدة أوبئة منها انفلونزا سارس في آسيا، والكوليرا في السنغال وبغلادش، والحمى في الهند والباكستان، إلا أن أعداد الوفيات لم تتعد الآف الأشخاص، وكان أكثرها في زيمباوي بسبب الكوليرا حيث وصل العدد إلى 4000 شخص، ثم انفلونزا الخنازير عام 2009 لتحصد 200 ألف ضحية خلال عامين.
ثم يعود فيروس سارس وفيروس ميرس للظهور عام 2012، ويفتكان بما مجموعه 1500 شخص خلال العام، وبعد عامين يظهر فيروس ايبولا في افريقيا وعدد من دول العالم ليقتل 11 ألف من المصابين به.
أما فيروس كوفيد-19 الذي نشأ في الصين شهر كانون أول 2019، ومنها انتقل إلى اوروبا والعالم، فقد وصلت عدد الاصابات به لأكثر من (1.3) مليون إصابة، بينما عدد الوفيات وصل إلى أكثر من 73 ألف شخص حتى لحظة إعداد هذا التقرير.
فالبشرية كما نرى على موعد مع حرب لا تتوقف مع الكائنات الدقيقة المسببة للأوبئة، والأمراض لا تميز ديناً ولا عرقاً ولا جنساً بعينه، كما لا تميز بين غني وفقير ومؤمن وملحد، فقد قتل طاعون عمواس صحابة رسول الله أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، وتسبب الجدري بفقدان الشاعر والكاتب العباسي أبو العلاء المعري لبصره في جيل الرابعة، وقتل الايدز الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو أهم فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين، والمؤلف الأمريكي وعالم الكيمياء الحيوية الروسي اسحق أسيموف، ومرض كورونا كما أصاب العامة في لندن وأمريكا أصاب الأمير تشارلز والممثل توم هانكس وزوجته المغنية ريتا ويلسون، وغيرهم من أثرياء وقادة العالم.