أُغلقَت البلاد، وَحُشِر العباد، وضاقت علينا الأرضُ بما رحبَت ولم نُوَلِّ هاربين، فاخترَعْنا من بيوتِنا فضاءاتٍ واسعةً للحياة، وبدا لنا أننا أصبحنا أكثر أُلفةً مع أُسَرِنا، وأكثر قُربًا من أجهزتنا الإلكترونية، وأدقّ تحضيرًا لدروسنا التي سنقدمها نحن المعلمين لطلبتنا الذين كانت تجمعهم الغرفة الصفية، فصاروا يجتمعون خلف شاشةٍ إلكترونية بأصواتهم وكتاباتهم، ونتشارك معهم بعضًا من صنوف المعرفة، وصروف الدهر. وإن اختلفنا أم اتفقنا مع التعليم الإلكتروني، والداعين له، أو الداعين عليه، وعلى من بشَّر به، إلا أننا نتفق على أنه يشكِّل حلّاً لا سحريًّا لهذه الغربة الطارئة التي فُرِضَت علينا في ظروفٍ استثنائية.
ولعله من الطبيعي أن تظهر بعض الأصوات الرافضة لهذا النمط الإلكتروتعليمي، بخاصةٍ أنَّ كثيرًا من المؤسسات التعليمية؛ مدارس ومعاهد وجامعات، لم توفِّر لطواقمها قاعدةً تدريبية، وهي لا تُلام في ذلك الآن، لأنَّ المصيبة حلّت بتشعُّباتِها زرافاتٍ ووحدانا، فلم يكن لدى أيٍّ منا فرصةً للتدريب أو التدرُّب، ولم يبقَ أمامَنا سوى قدرات الإرادة الغائبة أو المُغيَّبة. وبالتالي رُحنا نراهنُ عليها، فاستحضرنا ما يمكن منها، واتَّكلنا على الله، وكان الأمر لا بأس به. وهنا أقفُ قليلًا لأشهد شهادة حقٍّ بأنَّ للإدارة الحكيمة دورًا بارزًا في تمرير هذا النمط وتحريره، وجعله أكثر مرونة، وقبل أيامٍ كتبت مديرة مدرسة الفرندز د. ريام الكفري أبو لبن عن تجربتها في الحجر الطوعي، وفي تلك الفترة التي لم نكن نعلم أنها كانت خلالها في الحجر، كانت تتابع الحصص وتعقد الاجتماعات، و( تتنقل من حصة إلكترونية إلى أخرى، وتبعث الرسائل والإشارات وتعرض مساعدتها وخدماتها، وتهيئ الطاقم التقني المختص بقضايا الإلكترونيات والدعم الفني لخدمة المعلمين، دون أن تنسى الأهل والطلبة برسائل مختلفة) وعلى الصعيد الشخصي، أستطيع القول إنَّ تجربتي الإلكترونية كانت ناجحة، فقد تواصلت مع طلابي وزملائي، وقطعنا شوطًا مهمًّا في المادة، وهذا ينطبق على زملائي جميعًا، وعلى الأقل في دائرة اللغة العربية، بحيث نجتمع مع رئيسة الدائرة بشكل مستمر، ونخطط وننفذ وكأننا في ميدان العمل الحقيقي لا الافتراضي. وهنا أنهي هذا الشق لأتحدث عن دورٍ رياديٍّ لقسم الإرشاد الذي يتابع بدوره قضايا كثيرة، ويبث رسائل تطمينية وتحفيزية، سواء للطلبة وأهاليهم أو للمعلمين، كما يؤدي مجلس أولياء الأمور دورًا فعالًا في القضية ذاتها. وهذا التكامل الذي تبتدعه هذه الأجهزة كافة، ربما لا نجده في كثير من المؤسسات. وبالتالي يمكن القول إننا نعيش تجربة نجاح سيسجلها التاريخ. أما وقد طرقتُ هذا الباب، فإنه يحق لي أن أشير إلى أنني اعترضتُ سابقًا ولاحقًا وسأبقى أعترض وأنتقد قضايا عديدة إذا ما كانت هناك مدعاةٌ لذلك، وقد حصل سابقًا، ولكن في إطار النقد البناء. فهل أُنْذَرُ وَأُحذَّرُ إذا ما انزلقَ رأيٌ قبلَ شجاعةِ الشجعان؟ هذا الوضع مستهجنٌ ومستنكرٌ في ثقافتنا العامة، وفي مؤسستنا الصغيرة. فما بالكم بمؤسسة وطنية كبيرة يشهد لها العالم، ويشهد لها التاريخ الفلسطيني بما أنجزته، وبما أنجبته من قادة وشهداء ومناضلين وقامات علمية؟
شعرتُ بالأسف الشديد عندما قرأتُ أنَّ جامعةً ذات سيطٍ حَسنٍ وسمعةٍ طيبةٍ تعامل أحد رموزها وأعضاء تدريسها بلغة الإنذار والتهديد والوعيد، مجرّدَ أن عبَّرَ عن رأيه في قضيةِ التعليم الإلكتروني، وسواء أخطأ أم أصاب، فإن هذا رأيه، وهو لم يهاجم ولم يجرح أحدًا. ولكن بهذه الطريقة تتعزز الفوقية والقدرات القمعية، ولا تستعيد جامعاتنا الوطنية وطنيَّتَها، إلى أن يُحدِثَ اللهُ أمرًا كان مفعولا. حيث إنك حين تكتب مقالًا وأنتَ في مثلِ هذه الدوائر، يجب أن تكون انتحاريًّا، وأن تتحسس رقبتك لتعرف موضعَ استدارة حبل المشنقة بعد أن ينتشر القولُ كالنار في الهشيم. كنتُ أقرأ لأحد الأساتذة في إحدى الجامعات، وقد أنهى خدماته حديثًا حديثًا عن مسيرته في الجامعة، وعلاقاته مع أربعة رؤساء أو أكثر، وما فيها من مدٍّ وجزر. والحقيقة أنني شخصيًّا مفتون جدًّا بجرأته ودقة معلوماته، وصدقه الفني، وجمال أسلوبه، ولسعاته التي تصيب القريب والبعيد دون استثناء، ولا يسلم منها إلا كل سعيد ومسعد، وكان أحيانًا يصيب برميةٍ من غيرِ رامٍ، وهنا أقصد الاسم المنقوص على زِنَةِ اسم الفاعل( رامٍ "الرامي" من رمى) وكم رماهُ دون أن يعلمه نظم القوافي. والكلام عن أستاذنا الدكتور الشهير يطول، ولستُ بصدد الكتابة عنه هنا، ولكنه يستحق أن نكتب عن تجربته كثيرًا، وقد استشهدتُ به هنا لأنني قرأت له مقالًا مؤخرًا يشير فيه إلى تلقيه ذات يوم إنذارًا، بسبب انتقاده شيئًا ما. واليوم تنذر الجامعة أحد أعضاء تدريسها؛ لأنه قال ما لا يجبُ أن يُقالَ في عُرْفِ من لا يتحمَّلون، مع أنني أضع نفسي ومؤسستي التي أعمل فيها ما بعد (إلا) ضمن الفئة القليلة جدًا التي وظفها الكاتب في مقاله الذي تسبب له بالإنذار (إن صحَّ خبر الإنذار)، مع أنني لا أعرفه شخصيًّا ولكنني سمعتُ عنه قديمًا وحديثًا كلامًا عاديًّا جدًا. فهل نحن ضد العادي والمألوف؟ أم يجب أن نكون خارقين مثل سعيد أبي النحس المتشائل، وأن نتعربش على خازوقٍ بلا رأس؟.