تقديم:
منزويا داخل بيته في مدينة مونبلييه، يظل الفيلسوف إدغار موران مقتنعا بخط رؤيته الشاملة للمجتمع. داعيا بهذه المناسبة، إلى أن أزمة الوباء يجدر بها تعليمنا كيف نفهم بشكل أفضل العلم ونعيش في إطار الارتياب. ونعمل على استتباب نظام جديد للإنسانية.
س- على نحو مفاجئ، استعاد العلم ثانية نتيجة وباء كورونا، واجهة المشهد المجتمعي. فهل يتجه الأخير جراء ذلك صوب تحول؟
ج- ما يذهلني، أن جزءا كبيرا من الجمهور يعتبر العلم بمثابة بيان لحقائق مطلقة وتأكيدات يتعذر دحضها. لذلك يشعر الجميع بالاطمئنان حين رؤيته الرئيس يحيط به فريق علمي. لكن ما الذي حدث؟ لقد لاحظنا سريعا جدا، دفاع هؤلاء العلماء عن وجهات نظر متباينة جدا ومتناقضة أحيانا، سواء بخصوص التدابير التي ينبغي اتخاذها، وكذا العلاجات المحتملة من أجل تقديم جواب فوري بخصوص ما يجري، وكذا نجاعة هذا الدواء أو ذاك، ومدة التجارب الطبية التي يمكن الرهان عليها… كل هذه المناقشات تبث الريبة في ذهن المواطنين.
س- هل تودون القول بأن الجمهور يوشك أن يفقد الثقة في العلم؟
ج- لا، إذا استوعب بأن العلوم تعيش وتتطور في كنف النقاش والجدال. بحيث سمحت السجالات حول الكلوروكين، مثلا، بطرح سؤال التناوب بين الطارئ أو الاحتراس. وقد شهد عالم العلوم سابقا جدالات قوية من هذا النوع خلال لحظة ظهور مرض السيدا، سنوات 1980، بالتالي ما أوضحه لنا فلاسفة العلوم، يتمثل تحديدا في الجدالات التي تشكل جانبا ملازما للبحث ويقتضيه سياق تطوره. للأسف، جزء بسيط جدا من المختصين في العلوم من اطلع على كتابات كارل بوبر، الذي استدل من خلالها بأن نظرية علمية لا تصير كذلك إلا حسب مدى قابليتها للدحض، ثم غاستون باشلار، بطرحه لقضية تعقيد المعرفة، وكذلك توماس كوهن الذي أوضح حقا كيف أن تاريخ العلوم يعكس سيرورة متقطعة. عدم معرفة العديد من العلميين بهؤلاء الابستمولوجيين الكبار، يجعلهم سجيني منظور عقائدي.
س- هل تغير الأزمة الحالية من طبيعة هذه الرؤية للعلم؟
ج- يصعب التكهن، لكنني أتمنى أن ندرك في خضم ذلك، مستويات تعقيد العلم أكثر مما نود تصوره، سواء جاء الانحياز إلى جانب من يعتبرونه بيانا عقائديا، أو الذين يكتفون بالنظر إلى العلماء على صورة ديافواروس (مشعوذ في مسرحية موليير "مريض بالوهم'')، فالعلم باستمرار يعارض نفسه. العلم حقيقة إنسانية، يستند كالديمقراطية، على تناظر الأفكار، مع أن طرقه الاستدلالية تتسم بصرامة أكثر. رغم ذلك، تنزع النظريات الكبرى نحو العقائدية، واستعصى دائما على كبار المبدعين تبيّن سبل التعريف باكتشافاتهم. إذن بوسع المرحلة التي نجتازها حاليا، أن تشكل لحظة جيدة، كي يدرك ويستوعب المواطنون والباحثون أنفسهم، بأن النظريات العلمية ليست مطلقة، كما الشأن بالنسبة للعقائد الدينية، لكنها قابلة للتحلل.
س- أيهما بحسبكم مثيرة للانتباه أكثر: الكارثة الصحية، أو الوضعية السجنية غير المألوفة التي نختبرها في الوقت الراهن؟
ج- ليس المقام بهدف توطيد تراتبية بين هذين الوضعيتين، ما دام اطرادهما كان متسلسلا ويفضي إلى أزمة يمكن نعتها بالحضارية، تقتضي منا تغيير سلوكياتنا، وإعادة النظر في أسلوب حياتنا، محليا وكونيا. يمثل مختلف ذلك، وحدة مركَّبة. إذا أردنا تأملها من وجهة نظر فلسفية، فيلزم السعي نحو الربط بين مختلف الأزمات والتفكير قبل كل شيء في اللايقين، الذي يمثل طابعها الجوهري. مهم جدا، بخصوص وباء أزمة وباء الفيروس، أننا لم نصل بعد إلى أي تأكيد بخصوص أصل الفيروس نفسه، ولا تجلياته المختلفة، أو كذا الساكنة التي يهاجمها، ثم درجات ضرره. أيضا يعصف بنا ارتياب كبير بخصوص مضاعفات الوباء على مستوى جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية.
س- لكن وفق أي أساس يشكل بحسبكم منطق الارتياب هذا، صلة بين مختلف تلك الأزمات؟
ج- لأنه يلزمنا الاستئناس بها والتعايش معها، بينما ترسخ حضارتنا مزيدا من الحاجة إلى يقينيات حول المستقبل دائما متعددة، وهمية في الغالب، تافهة أحيانا، هكذا وصفوا لنا حتما على وجه التحديد طبيعة وضعنا سنة 2025! قدوم هذا الفيروس يلزمه تذكيرنا بأن الارتياب يظل عنصرا منيعا بالنسبة للوضع البشري؛ فمختلف الضمانات المجتمعية التي بوسعنا الرهان عليها لن تكون أبدا قادرة على ضمان عدم إصابتنا بمرض أو الشعور بالابتهاج لحظات تنظيف المنزل! هكذا نتطلع نحو تحصين واقعنا بأقصى التأكيدات الممكنة، في حين، تحيا معناه أن تمخر عباب بحر من التقلبات، وأنت تقتات على جزر من أرخبيلات اليقينيات.
س- يمثل هذا التصور منهجا خاصا لحياتكم؟
ج- بل ينطوي بالأحرى على عصارة تجربتي. كنت شاهدا طيلة حياتي على كثير من الأحداث غير المتوقعة. من المقاومة السوفياتية سنوات 1930 غاية سقوط الاتحاد السوفياتي -أشير فقط إلى هذين الواقعتين التاريخيتين غير المتوقعتين قبل حدوثهما فعليا- فصار هذا أساسيا فيما يتعلق بأسلوب حياتي. لا أعيش تحت سلطة جزع لانهائي، لكني ترقبت انبثاق أحداث كارثية. لا أدعي أني توقعت الوباء الحالي، لكني قلت مثلا منذ سنوات عدة، بضرورة ترقب مآسي لا غنى عنها نتيجة مسار تخريب المحيط الحيوي. نعم، يشكل هذا جانبا من فلسفتي القائمة على "توقع اللامتوقع". لقد انشغلتُ بمصير العالم منذ أن استوعبت حين قراءتي هيدغر سنة 1960، بأننا نعيش في العهد الكوني، ثم وصولا غاية سنة 2000 ، حينما صارت العولمة سياقا بوسعه أن يخلق السلبي أكثر من الإيجابي، ونحن نلاحظ اندفاعا غير مضبوط للتطور التقني. فالاقتصاد، يحركه تعطش لا نهائي تحت دوافع سياسية نيوليبرالية معممة، أضحت تخلق أزمات من شتى الأنواع. بناء على ذلك، كنت مهيأ ذهنيا لانتظار اللامتوقع، وترقب الاضطرابات.
س- كي نبقى في فرنسا، ما هو تقييمكم لواقع تدبير الوباء من طرف المؤسسات العمومية؟
ج- أتأسف للجحود الذي مس بعض الحاجيات، مثل ارتداء الكمامة، فقط تمويها لعدم توفرها! قيل أيضا: بأن الفحوصات لا تساعد على أي شيء، فقط من أجل إخفاء عدم قدرتنا على تلبية الحاجيات. سيكون إنسانيا الإقرار بارتكاب أخطاء وضرورة تصحيحها. تبدأ المسؤولية من الإقرار بالأخطاء. هكذا، لاحظت منذ خطابه الأول حول الأزمة، بأن الرئيس ماكرون لم يتطرق فقط إلى المقاولات، بل تكلم أيضا عن المأجورين والعمال. تحول أولي! نتمنى أن ينتهي بالتحرر من العالم المالي: بل استدعى إمكانية تغيير النموذج التنموي.
س- هل نسير إذن نحو وجهة تحول سياسي؟
ج- ارتكز نظامنا على التنافسية والمردودية، فترتبت غالبا عن تطورات ذلك نتائج جسيمة فيما يتعلق بظروف العمل. لذلك يمكن لزخم ممارسة العمل عن بعد، مثلما اقتضته ضرورة البقاء داخل البيت، المساهمة في تغيير طريقة اشتغال المقاولات ما زال نظامه مفرطا في التراتبية أو السلطوية. أيضا، بوسع الأزمة الحالية الإسراع بالعودة إلى المنتوج المحلي والتخلي عن كل هذه المواد الاستهلاكية غير القابلة للصيانة. ثم نعيد الاعتبار في نفس الوقت ثانية للحرفيين وكذا تجارة القرب. جل تلك المواقف، يمكنها الحضور بقوة بهدف تحسين ظروف العمل، خلال هذه الحقبة التي تعاني فيها النقابات وَهَنا شديدا.
س- هل نعيش حاليا تغيرا سياسيا، تعرف في خضمه العلاقات بين الفرد والجماعة تحولا؟
ج- تحكم المصلحة الفردية كل شيء، ثم ها هي مظاهر التضامن تستفيق. تأملوا عالم المستشفيات: كان القطاع موضوع خلاف واستياء عميقين، لكن أمام تدفق أعداد المرضى، فقد أبان عن سلوك تضامني مدهش. لذلك بادر الأفراد، إلى التصفيق كل ليلة، عبر شرفات منازلهم، تقديرا لجهود هؤلاء الأشخاص الذين أبانوا عن استعداد للبذل والتضحية من أجل الجميع. إنها بالتأكيد لحظة سمو، على الأقل محليا. ما دمنا للأسف، لايمكننا خلال الآن ذاته، الحديث عن يقظة التضامن الإنساني أو الدولي. مع أننا جميعا باعتبارنا كائنات بشرية، ننحدر من بلدان مختلف، تواجهنا نفس قضايا التلف البيئي وكذا الكَلَبية الاقتصادية. إذن اليوم، من نيجيريا إلى نيوزيلاندا، وقد اكتشفنا أنفسنا جميعا محتجزين داخل المنازل، يلزمنا الوعي بأن مصيرنا واحد، شئنا أم أبينا. ستكون لحظة إنعاش لإنسانيتنا، لأنه كلما انعدمت لدينا النظرة إلى الإنسانية بناء على وحدة المصير، يستحيل بالنسبة إلينا إجبار الحكومات على العمل وفق توجه خلاق.
س- ماذا بوسعنا استلهامه من فيلسوف مثلكم لتجاوز هذه الفترة الطويلة من الانعزال داخل البيت؟
ج- حقا، بالنسبة للكثيرين الذين يعيشون قسطا كبيرا من حياتهم خارج فضاءات منازلهم، ربما شكل هذا الاحتجاز المباغت، ضنكا مرعبا. لكني، أظنه مناسبة للتأمل، لمساءلة التافه واللامجدي ضمن مكونات حياتنا. لا أقول بأن الحكمة، تقتضي المكوث طيلة حياتك في المنزل، بل أن يمثل هذا الانعزال فرصة للتخلص من نمطنا الاستهلاكي أو الغذائي، وننتشل ذواتنا من هذه الثقافة الصناعية التي نعلم جيدا مآلاتها. إنها مناسبة للتخلص من تلك السموم، ونرسخ بين طيات ذلك وعيا دائما بهذه الحقائق التي نعرفها جميعا، لكنها ظلت متوارية في اللاوعي، والتي تصنع نوعية الحياة بناء على قيم: الحب، الصداقة، وحدة الشعور، ثم التضامن.
*مصدر الحوار:
CNRS Le journal :06- 04 -2020.