منذ بداية العام الجاري والإنسانية جمعاء تخوض معركة وجود ضد فيروس كورونا – كوفيد 19 المستجد، وقامت معظم دول العالم ومنها فلسطين بفرض حظر و/أو تقييد السفر والحركة وحجر المواطنين وعزل المصابين في محاولة لوقف انتشار الفيروس الجديد، وفي 30 يناير 2020، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن أعداد الإصابات شكلت حالة طوارئ صحية عامة وأدى كل ما تقدم إلى اضطرابات كبيرة في التجارة الدولية وفي أسواق المال العالمية خصوصا أن الانتعاش والتوسع الاقتصادي خلال العشر سنوات الماضية كان الأطول في التاريخ، وكان لابد من حدوث انكماش اقتصادي في أي لحظة إلا أن وباء الكورونا كان فتيل الانهيار في الأسواق المالية والاقتصاد العالمي، وأدى إلى مضاعفة الآثار الاقتصادية لهذا الوباء على مستوى العالم، خصوصاً بعد تعليق رحلات السفر الدولية حركة التجارة حيث يقبع ما يزيد عن أربعة بلايين إنسان تحت وطأة الحجر الصحي ووقف للأنشطة في قطاع السياحة بمختلف فروعها، وقطاعات بيع التجزئة مما أثر على عقود التوريد والتبادلات التجارية، وعقود القروض التسهيلات المالية، سواء الخاصة بالمؤسسات والشركات أو الأفراد.
وفي فلسطين، أصدر سيادة الرئيس محمود عباس (أبو مازن) مرسوما بإعلان حالة الطوارئ 5/3/202، ومنح رئيس الوزراء صلاحية تعطيل العمل في المؤسسات العامة والخاصة وصدرت عدة قرارات عن مجلس الوزراء بالتدريج بإغلاق محافظات الوطن ومنع التنقل منها وإليها، وبقاء الجميع في الحجر الصحي المنزلي، وتم إغلاق الغالبية العظمى من المحال التجارية والمنشآت غير الحيوية كما أن بعض المؤسسات الحيوية تعمل بأقل من ثلث عدد العاملين لديها.
ومع تمديد حالة الطوارئ لشهر إضافي مع ضبابية الوضع العالمي والمؤشرات من أن الإنسانية قد تضطر للتعايش مع هذا الوباء وما يفرضه ذلك من تغيرات جذرية في العالم بحيث قد يستمر الوضع القائم لأشهر تتجاوز العام الحالي مع بعض التخفيف للقيود المفروضة وتغييرات دراماتيكية في بيئة العمل وأساليب العمل، فإن سؤالين يطرحان بقوة من قبل المواطنين هما مدى تأثير إعلان حالة الطوارئ في فلسطين والحالة الواقعية بوقف العجلة الاقتصادية على عقود العمل في فلسطين وتحديدا ما هي التزامات كل من رب العمل والعامل في ظل هذه الظروف الطارئة والاستثنائية؟ والسؤال الثاني هو حول أثر حالة الطوارئ على التزام المستأجرين للعقارات التجارية المستأجرة لغايات تجارية تأثرت جزئيا أو كليا بحالة الإغلاق كالمطاعم ومحال بيع الأدوات الكهربائية والملابس… الخ.
بداية، فإن انتشار وباء كورونا وما تبعه من إجراءات من إعلان حالة الطوارئ، قد يعتبر من الناحية القانونية وفي إطار المعاملات المدنية قوة قاهرة باعتباره حدثا غير متوقع أثناء التعاقد يستحيل دفعه أو منعه أو درء نتائجه وفي مثل هذه الحالة يؤدي ذلك إلى فسخ العقود من تلقاء نفسها إذا كان تنفيذ الالتزام مستحيلاً، أو تعديل العقد إذا كانت الاستحالة جزئية وقد يأخذ وصف الحالة الاستثنائية والظروف الطارئة، بحيث يغدو تنفيذ الالتزام التعاقدي مرهقاً ويسبب خسائر فادحة غير معتادة، وفي هذه الحالة لا تنفسخ العقود تلقائيا وإنما يعود للقضاء في هذه الحالة إعادة التوازن بين طرفي العقد بحيث يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول وبشكل عام يجب أن تُدقق وتفحص كل حالة على حدى لتحديد هل تطبق مبادئ القوة القاهرة أم الظروف الاستثنائية أو الطارئة.
على ضوء الوضع القائم، اختلف القانونيون حول أثر الحالة الواقعية القائمة على التزامات رب العمل تجاه العمال من حيث استحقاق الرواتب وخصوصا أن وزارة العمل استندت إلى المادة 38 من قانون العمل عند إعلانها عن الاتفاق مع أرباب العمل حول آلية دفع الرواتب حيث تنص المادة (38) من قانون العمل على ما يلي:
1- لا ينتهي عقد العمل في حالة صدور قرار إداري أو قضائي بإغلاق المنشأة أو بإيقاف نشاطها مؤقتاً لمدة لا تزيد على شهرين، وعلى صاحب العمل الاستمرار في دفع أجور عماله طيلة فترة الإغلاق أو الإيقاف المؤقت مع مراعاة الأحكام الواردة في هذا القانون والمتعلقة بفترة التجربة. 2- ينقضي الالتزام المذكور في الفقرة (1) أعلاه بعد مدة الشهرين وعلى صاحب العمل أن يدفع لعماله زيادة على ما سبق ذكره مكافأة نهاية الخدمة كما نصت عليها أحكام هذا القانون.
وتثير المادة ٣٨ من قانون العمل في ظل الحالة الراهنة وإعلان حالة الطوارئ، إشكالية لدى العديد من المؤسسات على مستوى الوطن فالسؤال هل إغلاق الأنشطة الاقتصادية بسبب وجود وباء يهدد المجتمع ككل يدخل ضمن إطار أحكام المادة ٣٨ وبالتالي يلزم أصحاب العمل بدفع راتب شهرين للعمال؟ ومن ثم ينتهي العقد حكما؟
برأي المتواضع، فإن المادة ٣٨ تتحدث عن إغلاق المنشأة بقرار إداري أو قضائي، مما يستوجب وجود خطأ أو سبب يعزى إلى صاحب العمل اقتضى الإغلاق المؤقت أو الدائم أو وقف النشاط (وذلك لأن الفقرة الثانية من ذات المادة افترضت انقضاء العقد حكمًا وجوبًا بقولها "وعلى صاحب العمل دفع المكافأة" أي أعلنت انقضاء العقد) أما ما نحن أمامه اليوم فإنه يدخل في إطار نظرية الظروف الطارئة التي يستحيل لكلا الطرفين تنفيذ التزاماتهما بموجب عقد العمل، وبالتالي وعملا بمبادئ العقود الملزمة لجانبين توقف الالتزامات المتبادلة لكلا الطرفين فلا يستحق العمال أجرا ولا يترتب أي التزام على أصحاب العمل بدفع الرواتب للعمال خلال فترة الظروف الطارئة التي يستحيل معها تنفيذ الالتزام. قد يقال إن النص في المادة ٣٨ نص خاص إلا أننا نجد أنها جاءت لتنظم الإغلاق ووقف النشاط لسبب (خطأ أو إهمال أو امتناع) يعود لصاحب العمل، أما الظرف الاستثنائي الحالي وما يترتب عليه فيبقى محكوما بالقواعد العامة وإن قيام أصحاب العمل بالاستمرار بدفع الأجور للعمال والموظفين ينبع فقط من المسؤولية الوطنية والاجتماعية والأخلاقية لا القانونية.
مع إدراكنا أن النص في القانون الفلسطيني يمكن تفسيره بأنه يجب دفع الراتب لمدة شهرين، إلا أن الفقرة الثانية من ذات المادة توحي بأن على صاحب العمل بعد مدة الشهرين إنهاء عقود العمل ودفع مكافأة نهاية الخدمة، الأمر الذي يفهم معه أن الحديث لا يدور عن قرار إداري عام يشمل إغلاق الأنشطة الاقتصادية عامة، وإنما قرار قضائي وإداري موجه إلى المنشأة ذاتها لأنه يفترض عودة العامل إلى سوق العمل بعد شهرين لدى مشغل آخر بعد دفع مكافأته، الأمر الذي لا يستوي والحالة العامة للظرف الطارئ وبالتالي لا يمكننا تفسير القانون بأنه يتجه إلى زيادة نسبة البطالة ولعل ما اتخذته الحكومة الأردنية في الأردن الشقيق بموجب أمر الدفاع رقم 6 بحيث تم تنظيم ووضع آليات دفع الرواتب خلال فترة الإغلاق وآليات استحقاقها ووقف العمل بنص المادة 50 من قانون العمل الأردني المشابه إلى حد ما مع نص المادة 38 من قانون العمل الفلسطيني والتي صيغت بطريقة أكثر توفيقًا ودقة من النص في القانون الفلسطيني حيث نصت المادة على ما يلي:
"إذا اضطر صاحب العمل إلى وقف العمل بصورة مؤقتة بسبب لا يعزى إليه وليس في وسعه دفعه فيستحق العامل الأجر الكامل عن مدة لا تزيد على العشرة أيام الأولى من توقف العمل خلال السنة، وأن يدفع للعامل نصف أجره عن المدة التي تزيد على ذلك بحيث لا يزيد مجموع التعطيل الكلي المدفوع الأجر على ستين يوماً في السنة".
إلا أن الحكومة الأردنية ارتأت وعلى ضوء الوضع الاستثنائي والذي لم يكن متوقعا مطلقا حتى عند صياغة التشريع وقف العمل بأحكام المادة 50 ووضع أطر قانونية جديدة تتماشى مع الحالة الاستثنائية وتخلق التوازن الحقيقي بين مصلحة العمال ومصلحة الاقتصاد الوطني، وقد يكون من الضروري على الحكومة في ظل الظروف الحالية أن تتخذ موقفا إيجابيا واضحا بموجب ما لها من صلاحيات في إطار المشروعية الاستثنائية الناجمة عن حالة الضرورة بتنظيم ووضع آليات لدفع الرواتب والأجور بما يحقق مصلحة طرفي الإنتاج بحيث نخرج أبضا من إطار الجدل القانوني حول التفسيرات المختلفة للحالة الراهنة.
والسؤال الثاني هو حول أثر حالة الطوارئ على التزام المستأجرين للعقارات التجارية المستأجرة لغايات تجارية تأثرت جزئيا أو كليا بحالة الإغلاق وهنا يجب أن نوضح أن عقد الإيجار هو عقد ينصب على المنفعة للعقار وأن الفقه القانوني يوجب تمكين المستأجر من الانتفاع بالعقار ولزوم الأجرة مرتبط بالاقتدار على استيفاء منفعة المأجور وفقا لنص المادة 470 من مجلة الأحكام العدلية (وهي بمثابة القانون المدني الفلسطيني) حيث تضرب المجلة عدة أمثلة على سقوط الحق في استيفاء الأجرة عند عدم الاقتدار على استيفاء المنفعة ومنها الظروف الاستثنائية أو فعل الطبيعة أو قدر الله حيث نصت على ما يلي:
"عدم لزوم الأجرة للأرض التي تسقى لأجل الزراعة إذا انقطعت عنها المياه مدة الإجارة ولم يكن بإلإمكان زرعها وكذلك إذا تعطل النهر الأعظم (النيل) ولم يمكن السقي منه فلا تلزم الأجرة (لسان الحكام)... وكذلك إذا قال الآجر للمستأجر ها هي الدار فخذها واسكنها ولم يفتح المستأجر بابها ولم يسكنها وقال المستأجر بعد مدة الإجارة إني لم أسكنها ينظر إذا كان المستأجر يستطيع فتح الباب بدون كلفة لزمه الأجر وإلا لا. ولا حق للمؤجر في أن يقول للمستأجر هلا كسرت القفل ودخلت الدار. (الهندية)".
وبالعودة إلى الشروحات الفقهية للقوانين المدنية المقارنة نجد أن الفقه القانوني يكاد يجمع أن ما تتخذه الإدارة من قرارات تؤثر على الانتفاع بالعقارات المؤجرة بحيث يحرم المستأجر من الانتفاع بالعقار أو يحصل نقص كبير بالانتفاع بالعقار يجيز للمستأجر طلب إنقاص الأجرة بما يعادل ما انتقص من المنفعة أو طلب الفسخ لعقد الإيجار سواء في ظل وجود نص صريح بذلك في القانون المدني أو سندا للأحكام العامة للقانون بحيث تعتبر أعمال الإدارة من باب القوة القاهرة وبهذا الصدد فإن الفقه يجمع أن من حق المستأجر أيضا الرجوع بالضرر على جهة الإدارة فيما إذا كانت إجراءاتها خارج إطار المشروعية وهو أمر لا ينطبق برأيي على الحالة الراهنة.
إلا أنني وعلى ضوء النصوص الواضحة الدلالة في مجلة الأحكام العدلية وحيث إنه لا اجتهاد في معرض النص وعلى ضوء الطبيعة القانونية لعقد الإيجار والشروحات الفقهية لحدود المسؤولية في حالات الطوارئ والظروف الاستثنائية؛ فإن الأجرة تسقط بمقدار ما فات من انتفاع بنتيجة حالة الطوارئ الناجمة عن انتشار فيروس كورونا وما صاحبه من إغلاق للمحال التجارية ووقف للأنشطة الاقتصادية.
وعلى الرغم مما تقدم، ومنعا لأي لبس أو إشكاليات قانونية ومنعا للتضارب في الآراء والأحكام والاجتهادات؛ فإنه قد يكون من المستحسن قيام الحكومة باستخدام صلاحيتها بإصدار قانون يحدد آلية دفع أجور المحال التجارية سواء بالتأكيد على الإعفاء منها خلال فترة الطوارئ للأنشطة المغلقة بالكامل وفقا لنصوص القانون كما بيننا أو تحديد دفع جزء من الإيجارات وفقا لحدود الانتفاع وعدم ترك المسألة مفتوحة على مصراعيها لتفاسير مختلفة ونزاعات ستثقل الجهاز القضائي وتهدد السلم الأهلي وتعرض المستأجرين لخطر وخسارات إضافة لما تحملوه من أضرار اقتصادية جمة، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن عقود الإيجار لغايات السكن لم تطلها حالة من عدم القدرة على استيفاء المنفعة، وبالتالي فإن بدلات الإيجار الخاصة بها مستحقة وواجبة الدفع والسؤال المطروح هنا ألسنا بحاجة إلى تدخل تشريعي أيضا لتنظيم إليه دفع هذه الأجور على ضوء انقطاع دخل شريحة واسعة من المجتمع الفلسطيني خلال هذه الفترة بحيث يتم توزيع بدل الإيجار المستحق على أشهر تلي انتهاء الأزمة وعودة الحياة إلى طبيعتها.