الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

التوحش الإعلامي في فلسطين بقلم: محمود الفطافطة

2015-02-11 12:46:01 AM
التوحش الإعلامي في فلسطين
بقلم: محمود الفطافطة
صورة ارشيفية

الحدث. 

عندما تُهيمن الأيديولوجيا والملكيات الخاصة على المهنية والصالح العام في القطاع الإعلامي فإن المردود لا يتعدى عن منتجٍ مشوه، ومخرجات عقيمة؛ عاجزة عن إثبات حق، أو تبيان حقيقة، أو تشكيل رأي عام قوي ومستقل.

فالإعلام الجيد الذي يستند إلى مقومات الموضوعية والتوازن والنزاهة والمسؤولية هو الإعلام الذي يحقق للمجتمعات ثالوث التنوير والتغيير والتطوير، في حين أن الإعلام الذي يتفشى فيه الفساد وتسوده الطغم الفاسدة هو إعلام متوحش لا يجيد القائمين عليه سوى " غرز" سمومهم في الجسد الحر لأولئك الإعلاميين الذين يرفضون الخضوع لرغوة المال أو الخنوع لسطوة الأمن أو دهاء الساسة.

وبين حينٍ وآخر نسمع أن هذه المؤسسة الإعلامية أو تلك طردت صحافياً أو " استغنت عنه" أو علقت عمله بسبب " تغريده خارج السرب"، وذلك في إجراءٍ لا ينم إلا عن استبداد ودكتاتورية لا تتماشى أبداً مع أخلاقيات العمل الإعلامي.. فليس من حق مالك الوسيلة الإعلامية أو رئيس التحرير وسواهما أن يحاسب الإعلامي عن مواقفه أو توجهاته طالما لم تخرج عن الإطار القيمي والوطني..

ومن آخر القصص التي حدثت في هذا المجال قيام هيئة الاذاعة والتلفزيون الفلسطينية وتحديداً "صوت فلسطين" باتخاذ ممارسات واجراءات تتناقض وتخالف الانظمة والقوانين والاعراف المتبعة في العمل الاداري والمؤسساتي عبر وقف عدد من الزملاء، عن العمل وتحويل بعضهم للتحقيق بسبب مواقف لا تتماشى مع بعض القائمين على الهيئة.

 

هذا الإجراء يمثل وفق نقابة الصحفيين ـ التي أصدرت بياناً تشجب هذا السلوك ـ انتهاكا صارخا لحرية الرأي والتعبير والعمل النقابي . واستناداً إلى هذه السلوكيات الخارجة عن أي إطار أخلاقي ومهني نود التأكيد على أهمية العمل الصحفي من حيث الحرية والأخلاقية والمهنية والمسؤولية وسواها. فالصحفي له الحرية في التعبير والتفكير عما يجول في ضميره وعقله من أفكار وآراء، فهو في النهاية لديه أيديولوجيات يعتنقها، وله موقف يجب أن يعبر عنه بحريةٍ بعيداً عن سيف الطرد من الوظيفة أو التلويح بسكين قطع الأرزاق وما شابه.

 

فالمجتمعات التي لا تؤمن بالحرية هي مجتمعات تطارد الصحافة وتلاحق الكلمة بمقصٍ أطول من سارية العلم !! . في هذه البيئة المضادة للصحافة وللحرية عموماً تتفشى مفاهيم من قبيل الخوف أو المجاملة وما يتصل بهما من الرقابة الذاتية التي هي تمثل " ذئباً " ينهش بجودة المخرجات الاعلامية والمعرفية. هذه البيئة لا يمكن لها أن تخلق صحفياً حراً في التفكير أو مستقلاً في الكتابة أو متحرراً من قبضة القيد والتوجيه والتصنت.  إنها مشهدية خاوية من أي فعل صحفي متميز . مشهدية يغيب عنها الحضور الصحفي الفاعل ليحل بدلاً منه ملح الاشاعة وسوء الظن  وجمرة العشوائية.

فالعمل الصحفي يعتبر من أهم الادوات والوسائل لنقل المعرفة والحقيقة للناس، كما يلعب دوراً أساسياً وبارزاً في الرقابة والمساءلة، والتأثير  في السياسات العامة ، وخلق رأي عام ، هذا عدا عن تجسيده لهموم وآمال المجتمع.  فالصحافة التي  لها دورٌ مؤثر وفاعل في حياة الشعوب تستحق لقب " صاحبة الجلالة "  مثلما استحق الاعلام عموماً  لقب " السلطة الرابعة ". هذه الأهمية المثلى للصحافة تفرض على العاملين في الحقل الصحفي سيما الشباب منهم التعرف على أُسس ومبادئ هذه المهنة والإطلاع جيداً على القيم والأخلاقيات التي يتوجب على ممارسي العمل الصحفي الالتزام بها والتقيد بمعاييرها.

كذلك، فإن الإعلامي الذي يُصبح أداة بيد السلطة السياسية أو الحزب وغيرهما ، يبرر لهم خطواتهم ويُشرعن سياساتهم ومواقفهم سيساهم في تزييف الحقائق ولا يلتزم بأخلاقياته المهنية الموضوعية في البحث عن الحقيقة. وما بين توزيع الهيمنة بين سلطة تملك أدوات القمع والرقابة، ومال سياسي، يسعى إلى تأمين مصالحه وغاياته بالمساومة أو بالتفاهم مع السلطة فإن الإعلام يُحاصر لتتداعى المصداقية تحت ضغط مزدوج يصعب الخلاص منه.

وبالحديث عن العلاقة بين الأيديولوجية والإعلام يجب التأكيد، بداية، على أن الإعلام ليس علماً ينبغي فصله عن الأيديولوجيا، فعالم الصحافة هو عالم أيديولوجي بكل ما في الكلمة من معنى . والبحث عن صحفي بدون أيديولوجية ، كالبحث عن سياسي يتعامل مع السياسة كأنها بحث علمي. ولكن المهم ، هنا، يكمن في قدرة هذا الصحافي على تحييد الأيديولوجية حيث يلزم، وعدم الخجل بها أو سترها حيث لا يلزم.  

وعندما نتطرق إلى تأثير الأيديولوجية في وسائل الإعلام العربية نجد كثيراً من الصور التي تمارسها هذه الوسائل لإخفاء الوقائع التي لم يحن وقت إبرازها  من وجهة نظرها، وتبرر الانتقائية التي تؤكد صحتها، وتبرر ليّ الحقائق في خدمة هذا الهدف أو ذاك. هذه الصور تتوجه بشكل عام إلى تفضيل العرض والرأي على الخبر ، والشكل على المضمون ، والإثارة على درجة الأهمية، والسجال على المعلومة، والابتعاد عن التحقيق الصحفي الجدَي الذي يبقى السّمة المميزة للإعلام الحر.

وبالانتقال إلى تأثير هذه الأيديولوجية على أداء الإعلاميين الفلسطينيين فإن الحالة لم تختلف كثيراً عن المشهد الإعلامي العربي، حيث إن الإعلام الفلسطيني تعرض ولا يزال إلى استهدافٍ ممنهج من قبل الاحتلال بهدف تحييده عن ميدان المواجهة أو إضعافه وشل إمكاناته باعتباره وسيلة هامة في تعزيز الوعي والنضال الوطني. في مقابل هذا الاستهداف الإسرائيلي فإن توجه معظم وسائل الإعلام الفلسطينية للعلاقة أو الشراكة مع رأس المال السياسي والحزبي والاقتصادي ، تاركة للمواطن دور المتفرج والمستهلك دفعه للإعراض عن متابعة هذه الوسائل سيما وأنها تفتقر إلى ملكية مستقلة أو هوية واضحة أوتغطية إخبارية عادلة  ومتوازنة . في هذه الحالة لم يستطع الإعلام الفلسطيني بناء رأي عام  قوي ومتماسك قادر على إثراء المشهد المجتمعي والواقع السياسي والاقتصادي بعناصر القوة والريادة والتنمية المستدامة .

فالسياسات الإعلامية الفلسطينية تشكو من انفصامٍ حاد بين الغايات والإمكانات وبين الشعارات والممارسات ، والعجز عن تحقيق أي نوعٍ من التكتل الإعلامي  القادر على مواجهة هيمنة السياسة وسطوة الاقتصاد. تجليات هذا العجز عديدة يتمثل بعضها في طابع التعتيم والانحياز والتهميش ، وإفراغ مبدأ حرية الرأي والتعبير والنشر من مضامينها بعباراتٍ  تذيلها ، من قبيل " بما لا يتعارض مع المصلحة العامة "، " وبمقتضى القانون " ، وكأن القانون قد أصبح في بعض ديارنا فوق الدستور.

هذا العجز تتضاعف صوره في ظل وجود صحافة رسمية يعتبرها البعض مثالاً نموذجياً لصحافة الولاء، وإذاعات موجهة تذيع ولا تُسمع، ووكالات أنباء ترسل ولا يستقبلها إلا القليل . هذا كله أدى الى غياب الإعلام عن لعب دور حاسم في عملية التنمية والوعي والتغيير المطلوب.  بكلماتٍ أخرى : هذا الاعلام لم يرتفع لمستوى الرسالة المنوط بها تعميق وعي المواطن وإشراكه في التفاعل وإسهامه في البناء الجماعي . فصناعة الإعلام تمّ تحويلها من صناعة كثيفة الابداع الى صناعة تقليدية كثيفة رأس المال وهذا ما أدى إلى فتور عدد كبير من الجمهور عن متابعة  هذه الوسائل وتوجهه نحو وسائل إعلام خارجية لاستقاء المعلومات والأخبار من خلالها.

وبنشوب الاقتتال الأيديولوجي بين حركتي فتح وحماس وما نجم عنه من إنقسام سياسي وجغرافي وديمغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة برز بشكلٍ واضح وصادم الانقسام العمودي في البنية السياسية والأيديولوجية الفلسطينية . وزيادة على ذلك فقد ساهم الانقسام ، وعن طريق الإعلام المسيس حزبياً ، في إضعاف الثقافة الشعبية، والهوية الوطنية، والتوافقات الاجتماعية، وأنماط الحياة الفلسطينية . فتواصل الانقسام يعني عدم لجم الإعلام التحريضي والإبقاء على فاعليته التدميرية، وتعميق الهوّة بين بيئتين سياسيتين واجتماعيتين.

وقد كان الإعلام المرئي والإلكتروني الأكثر " تورطاً " في الاستقطاب والانحياز خلال فترة الانقسام لتصبح الموضوعية والمهنية أول الضحايا الُمداسة في خضم التطاحن الإعلامي والسياسي ليُجهز ، بالتالي، على كل مساحات الاستقلالية التي كان من الممكن أن تنشأ وتخلق فضاءات لإعلام مختلف قائم على المهنية والحيادية والنزاهة.

أما بخصوص الإعلام المكتوب فقد انحازت كل من جريدتي " الأيام " و" الحياة الجديدة " إلى " فتح " والسلطة الفلسطينية في رام الله، فيما انحازت صحيفتا " فلسطين"  و" الرسالة " في قطاع غزة إلى " حماس" ، من دون أدنى تردد.  أما صحيفة " القدس " فقد تموقعت في موضع رمادي بعض الشيء، واتبعت خطاً تحريرياً أكثر اتزاناً وموضوعية إذا ما قورنت بالصحف الأربع وإن كان في المجمل العام قريب من " فتح" والسلطة .

قد تكون الحرية هي المفردة الأكثر رواجاً على ألسنة البشر والأكثر مطلباً للنفوس ؛ خاصة تلك التي تشربت الظلم والتهميش والمطاردة .. هذه الحرية لا يمكن لها أن تلامس الواقع إلا بوجود صحافة حرة وقوية  .. فالحرية كغاية والصحافة كوسيلة تتطلبان أسس متينة ومبادئ واضحة للدفع بهما الى جادة الأثر والتغيير .. الأسس هنا تتمثل في الصحفيين الرائدين بينما المبادئ فتكمن في سلم الاخلاقيات الواجب على الصحفي التقيد بها كهدفٍ سامٍ للارتقاء بمهنته والمساهمة في توطين معالم الحرية التي بتجسيدها تتراخى المثالب لتتفكك وتقوى أوتاد المجتمع فيتطور .

وما بين الخواء والارتقاء في الصحافة يتطلب الأمر وجود العنصر الحاسم للتخلص من خوائية المهنة مقابل التكاتف لتقوية صرح ورسالة هذه المهنة. العنصر الحاسم هذا هو الصحفي الذي بحاجةٍ إلى وقود يسعفه لاختراق تحديات الصحافة وزحزحة الكثير من مثالبها أملاً في تجاوز ذلك نحو قنطرة التميز والابداع والتحول. بكلماتٍ أخيرة: طالما بقيت التوحش لدى بعض المؤسسات الاعلامية والقائمين عليها متواصلاً  سيظل الاعلام الفلسطيني رهينة لأباطرة السوق لا مطلباً لوجع الناس وآمالهم... علينا أن نحارب التوحش بكل مصادرة وتجلياته وإلا بقي اعلامنا صوت بلا صدى، وصورة بلا مضمون... نحن أصحاب أعظم قضية في التاريخ، لذا؛ واجب علينا أن نحطم كل صور التوحش هذه ، فيكفينا توحش الاحتلال ونازيته..