ضوء في الدَّغْل
الحدث.
فلنتخيَّلْ المشهدَ التَّالي:(يطلُّ رجلٌ من شرفة بيتِه فيرى سيَّارة حمراء متوقَّفة، وتقع عيناه على عيني السَّائق. يدخل البيتَ ويعاود الإطلالة بعد نصف ساعة، يرى السَّيَّارة نفسها متوقفَّة في مكان آخر، وسائقها غير موجود فيها. تتبادر إلى ذهن الرَّجل أسئلة كثيرة؛ لماذا السيارة قرب البيت؟؟لماذا غادرها صاحبها وغيَّر مكان توقفه؟ وقد تزداد شكوكه فيتساءل مثلا:ولماذا لونها أحمر؟).
لا بدَّ أنَّك أدركتَ أيُّها القارئ أنَّنا نتحدَّث عن نظرية المؤامرة، وهي طريقة في تفسير الأحداث والظواهر بهوسٍ يفترض دائما وجودَ خطة سريَّةٍ، وفاعلين حقيقيين غير ظاهرين يحرِّكون مسرح الأحداث. وقد تمَّ التشكيك في كثير من الأمور من هذا المنطلق وبهذا المنطق غير السليم، مثل تكذيب صعود الإنسان إلى القمر، واعتبار أحداث 11سبتمبر عملا ليس من تدبير القاعدة...إلخ. ولئن كانتْ نظرية المؤامرة تفكيرا يوجد عند كثير من النَّاس في العالم، إلاَّ أنَّها عربيًّا تكاد تكونُ الآلية الوحيدة لتفسير كلِّ شيء، داخليًّا من خلال نسبة كلِّ مشاكلنا إلى أطراف أجنبية، وخارجيا من خلال اعتبار كلِّ الأحداث خطَّة مدروسة للفتك بالأمَّة وطمس هويتها وتضييع دينها.
ومهما يكن من انتشار هذا النوع من التفسير المجنون والهستيري بين الأفراد في مجتمعاتنا، إلا أنَّه لا يثيرُ حيرة كبيرة ما دامتْ المؤامرة والقابلية لها موجودة عند الناس، وحتى عند أفراد عديدين في مجتمعات غربية. لكنْ أنْ تكونُ الأنظمة العربية متبنية لهذه النظرية في جميع خطاباتها، فهذا يدفع إلى تساؤلاتٍ كثيرة. ولعلَّ أقرب تفسير لهذا هو كون الأنظمة وجدتْ في الفكر المؤامراتي وسيلة لتحسين صورتها أمام الشّعوب، ولتبريء نفسِها من أخطائها والتنصِّل منها. وليس هذا الكلام ادِّعاءً، بل يثبت الواقع، وفي كل حدثٍ داخليٍّ كبير، مسارعة المسؤولين العرب إلى نسبة ذلك إلى أطرافٍ خارجية، ومن ثمَّة يأخذون من شعوبهم إذنا مفتوحا للبطش والقتل والظلم والتنصُّل من كل هذا بفضل هذه النظرية.
لماذا إذًا تنجح المؤامرة عربيًّا في نسبةِ كلِّ شيء إلى الخارج؟ ببساطة شديدة لأنَّ هناك قابلية عند الشعوب العربية لمثل هذه الأفكار، خاصة إذا تعلَّق الأمرُ بالغرب. هذا الأخير الذي تنظر شريحة كبيرة من النَّاس إليه كأكبر متآمر على الأمة، بفكره وعلمه وإعلامه وسياسييه وجنوده وشعوبه. إنَّ هذا الواقع العربي الغارق في الهوس هو من حظ الأنظمة التي تعلِّق فشلها وأخطاءها جميعا على مشجب المؤامرة لأنَّها نجحتْ في تحويل الشعوب العربية إلى أجسادٍ بلا وعي تتلقَّى من حكوماتها الوهم، بل، وتساهم هي نفسها في صناعته. وخير مثال على هذا هو ظاهرة"داعش"، التي يعتبرها البعض صناعة أمريكية، لأنَّهم لم يحتملوا فكرة أنْ تكون ممارسات داعش من الدين، ببساطة لجهلهم بالخطابات المتطرفة المفتية بالإجرام، والتي بُنيتْ قاعدتها قديما، وقد تحوَّلتْ اليوم إلى منظومة مكتملة من العنف. لهذا كان الواجب، بدلا عن المؤامرة، أنْ يفكِّر المحلِّلون في الأسباب الداخلية التي أدَّتْ إلى ظهور هذه الجماعات الإرهابية، وهل لذلك علاقة بما ظلَّ يحدث داخليا من ممارسات السلطات الاضطهادية، التي مهَّدتْ الطريق لكل هذا العنف الذي يظهر بمجرَّد حدوث أدنى فوضى.
تظلَّ نظرية المؤامرة بوق الشعوب الضعيفة دائما لأنَّها غيرُ قادرة على الصراع والتدافع في هذا العالم الداروينيٍّ الذي لا بقاء فيه، منذ وجد، إلا للأقوى. لهذا يمكن القول إنَّ العربَ اليوم مؤامراتيون لأنَّهم ضعفاء، وهم مهووسون باتهام الغربِ بالتآمر عليهم لأنَّهم غيرُ قادرين على المنافسة، ولا يد لهم في الحضارة المعاصرة، ولذلك ينتكسون وينغلقون ويجدون أنفسهم مضطرين للاحتماء داخل قوقعة المؤامرة وهم يرون إلى الشعوب تعمل وتبني وتتصارع من أجل الريادة.