الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

سَيْكولوجيَّة التفكير والسُّلوك السِّياسي بقلم: رائد دحبور.

الجزء الثالث

2015-02-11 12:57:28 AM

سَيْكولوجيَّة التفكير والسُّلوك السِّياسي
بقلم: رائد دحبور.
صورة ارشيفية

 روىّ في السياسة والفكر

الحدث.

نبدأ الحديث في الجزءِ الثَّالث من حيث انتهينا في الجزءِ الثاني؛ عند الإشارة الى دور المؤثِّرات الِّدعائية والمؤثِّرات العاطفيَّة شديدة القوَّة التي تُسْتَخدَمُ في سبيل صياغةِ نمطٍ ما من الإدراكِ والتفكير السِّياسي وبالتَّالي التأثير في طبيعة التوجُّهات السُّلوكيَّة لجموع المتأثرين بالدِّعايةِ السِّياسية ذات الأهداف المنهجيَّة المُحدَّدة أو تلك الأهداف الإنفعاليَّة الَّتي تفرضها ضرورات الجماعات والأحزاب وحتَّى الحكومات والدُّول. وقد أشرنا في الجزء الثَّاني الى بعض وسائل الدِّفاع السيكولوجي عن الذَّات ومنها التبرير والتَّسويغ والإسقاط والتَّقمُّص في الدِّفاع عن السلوك والموقف السِّياسي.

ونؤكِّدُ هنا – ابتداءً؛ وعند تناولنا لموضوع الدِّعاية السياسيَّة – على أَنَّ عواملَ قوَّةَ المؤثِّرِ وشدَّة وضوحه وتَمَيُّزهِ وبقائِه حاضراً في الوعي لأطول فترة ممكنة واتِّصاله بالجانب العاطفي؛ لها دورٌ أساسي في قوَّةِ التَّأثير على صياغة الإدراك وبالتَّالي على توجيه السُّلوك. ومثالُ ذلك شدَّة تأثير الَّلون المُمَيز للإعلانات وكذلك الشِّعارات والرُّموز المُسْتَخْدَمة فيها؛ وكِبَرِ حجم وشدَّةِ وضوح وسائل الدِّعاية؛ ومكانها البارز؛ أو قوَّة وسائل الإعلام؛ ومساحات انتشارها الواسعة.

 

هنا لا بدَّ من الإشارَةِ الى دورِ الدِّعاية بشكلٍ عامٍّ في توجيه السُّلوك؛ فالدِّعاية في جانب النَّشاطات التِّجاريَّة والإقتصاديَّة والتَّسويقيَّة – مثلاً - لها تأثيرٌ مهم على سلوكِ المستهلك والجمهور المُسْتَهدَف؛ وهي لا تقِلُّ دوراً في جانب الترويج السياسي للأفكار والمباديء والدَّعاوى السِّياسيَّة؛ والدِّعاية بطبيعة الحال هي إحدى المؤثِّرات المُسْتَخْدمة في محاولة صياغة أنماطٍ معيَّنة من الإدراك والوعي على الواقع؛ وفي محاولةِ توجيه السلوك وردود الأفعال على المجريات والأحداث.

وقد تتمحور الدِّعاية السِّياسيَّة حول تمجيد الشَّخصيَّة الكرِزميَّة – ذات الصِّفات المميزة في نظر الجمهور أو الجماعة – أو قد تتمحور حول فكرةٍ أو مفهومٍ ما؛ وفي الوقت الَّذي تُستَخدَم فيه الدِّعاية للترويج فإنَّها تُسْتَخدمُ في تعزيز وتعميم أنواعٍ معيَّنةٍ من الإدراك والوعي تجاهَ ظاهِرَةٍ شخصيَّة أو قياديَّةٍ ما؛ أو لتعزيز مفهومٍ سياسيٍ محدد؛ أو تعزيز فهمٍ ما تجاه الأحداث أو الوقائع أو السياقات التَّاريخيَّة.

 ويتوقَّفُ تأثيرُ ونجاح الدِّعايةِ السِّياسيَّة على قوَّة المؤثِّرات والوسائل الدِّعائيَّة المُستَخْدَمة؛ وهي في الغالب تلجأ الى استخدام الجوانب الإنفعاليَّة والمعنويَّة والى استثارة الذَّاكرة العاطفيَّة والى الُّلجوءِ الى استثارة العواطف والمشاعر المُتَّصِلةِ بمنظومة العادات والقِيَم والثَّقافة الجمعيَّة القائمة بصورها البسيطة؛ أكثرَ من لجوئِها الى استخدام لغة الأفكار والمفاهيم العميقة تجاه الحقائق الموضوعيَّة أو الأوْضاع؛ أو محاولة تفسير الأحداث والظواهر والوقائع السِّياسيَّة ضمن دائرة حقائقها الموضوعيَّة المجرَّدة من التحيُّز الشَّخصي أو الفئوي؛ لذا فإنَّ وسائل الدَّعاية السياسية – ومنها آليَّات الدِّعاية ووسائل الإعلام على اختلافها – تلجأ الى تعزيز مفاهيم وطرائق الإنتقاء الإدراكي للحقائق وللوقائع خدمةً لأهدافها سواءً المعلنة أو الخفيَّة المُسْتَتِرة؛ والى تعزيز منهج التفكير النَّمطي تجاه المنافسين في المضمارِ السِّياسي.

 

وهذا ما تلجأ إليه الأحزاب والحركات السِّياسيَّة في الغالب؛ فهي تقوم بتضخيم ما يخدم دعايتها من مجرياتٍ وأحداثٍ وحتَّى من افتراضات  – على هامشية تلك المجريات والأحداث والإفتراضات – في الوقت الَّذي تلجأ فيه الى تهميش وتسطيح مجرياتٍ أو أحداثاً أو افتراضات واقعيَّة على أهمِّيَّتِها وجوهرِيَّتها !!.

لقد عبَّر – الرِّوائي الِكْسَنْدَر دوماس – ذات مرَّة عن حقيقة الدِّعاية السِّياسيَّة وتأثيرها واعتمادها على الأوهام أحياناً؛ في روايته الشَّهيرة سقوط الباستيل – نهاية القرن السَّابع عشر - وعلى لسانِ إحدى شخوصِ الرِّواية – الدُّكتور والفيلسوف جيلبير – في حواره مع رئيس وزراءِ ملك فرنسا لويس السادس عشر – دي جاكار – وبعد تحرير الأوَّل من سجنِ الباستيل بعد سقوطه بفعلِ قوَّة الدِّعاية الَّتي استهدفت سياسات " لويس السادس عشر " والإنفعاليَّة التي صاحبت أحداث الثَّورة الفرنسيَّة؛ بقوله:

 " إنَّ هناكَ أحزاباً سياسيَّة يقودها شخصٌ وسلاحها الدِّعاية والشُّهرة؛ وثمَّةَ أحزابٌ سياسيَّة يقودُها المبدأ وسلاحُها الفكرة؛ ولقد تَفَحَصتُ سابقاً أوضاع أوروبا عموماً وفرنسا تحديداً فوجدْتُ أنَّ هناك فرصةً بفعل أوضاع الفقر والإضطهاد؛ لظهور الأحزاب الجماهيريَّة الَّتي يقودها المبدأ وتعتّمِدُ في سبيل التَّغيير على الأفكارِ الجديدة وعلى الجماعات السِّريَّة الَّتي كُنتَ انتَ ولويس السَّادس عشر تعتبرونها مجرَّد أوهام لا وجود لها !! ".

وعبرَ الوسائل الدِّعائيَّة يتمُّ استخدام وسائل الدِّفاع السيكولوجي عن الذَّاتِ - سواءً الذَّات الشَّخصيَّة أو الفئويَّة أو المنهجيَّة – ويمكننا الإشارة هنا الى بعض وسائل الدِّفاع السيكولوجي؛ ومنها:

1- التبرير: بحيث يتمُّ الُّلجوء الى منهج تبرير الأفعال والمواقف الجديدة على قاعدة ظروف الموقف وضرورات المراحل؛ دونَ تقديم إجاباتٍ واضحة ودقيقة عن الأسئلة المتَّصِلة بسلسلة الأخطاء المنهجيَّة الَّتي قادت الى تلك الظروف.

 

2- التسويغ: وهو الُّلجوءُ الى منهج تسويغ المواقف على قاعدة الحرص على مصلحة الشَّعب أو الجماهير أو المصلحة الوطنيَّة العليا؛ وذلك دونَ تعيينٍ واضحٍ لحدود تلك المصالح أو دونَ تعريفٍ دقيق لتلك المصالح بواقعيَّةٍ وموضوعيَّة؛ وهذا المنهج هو منهجُ التماس الأعذار لتسويغ الأفعال والمواقف المناقضة لجوهر الأفكار والمباديء والشِّعارات الَّتي درجت تلك الفئات أو القوى أو الشَّخصيَّات على ترديدها باستمرار.

3- الإسقاط : وهو محاولة نسبة الصِّفات الَّتي يحملها الشَّخص أو الجماعة؛ أو منهج السُّلوك الَّذي ينتهجه الشخص أو الجماعة الى الآخرين؛ فعندما يتم الُّلجوء الى الدِّعاية الكاذبة أو الى الخداعِ – على سبيل المثال - يُقال إنَّ الآخرين كاذِبونَ ومخادِعون.

4- التَّقمُّص: وهو محاولة تقمُّص مواقف أو سلوك أو صفات الشَّخصيَّات الكرزميَّة أو المُلْهِمة؛ من خلال تقليدها أو ترديد ما تقوله باستمرار؛ وغالباً ما يتمُّ الُّلجوء الى هذا الأسلوب في الدِّفاع السيكولوجي عن الذَّاتِ لإقناعِ النَّفسِ أولاً؛ والآخرين ثانياَ؛ بصحَّة الموقف السِّياسي أو السلوك المُتَّبع؛ أو ردود الأفعال المُتعلِّقة بحدثٍ ما؛ مع عدم توفُّر القناعة العقليَّة أو المنطقيَّة من قبَلِ الشَّخصِ بذلك.

هذه بالإجمال أبرز المعالم السيكولوجيَّة الَّتي تميِّز التفكير والسلوك السِّياسي كإحدى الأنشطة الَّلصيقة بالحياة الإنسانيَّة والإجتماعيَّة؛ حاولنا استعراضها عبر مقالنا في أجزائه الثَّلاثة.