أحسن الرئيس بإعلان حالة الطوارئ مبكرا في مواجهة "جائحة كورونا"، وأجاد رئيس الحكومة في توظيفها بسرعة إغلاق منطقة بيت لحم، ضحية الفيروس الأولى، فور اكتشاف حالات الإصابة، لمنع انتشار الفيروس خارجها. وأقدّر أكثر جهود نشامى الوطن من الكادر الصحي وأجهزة الأمن على اختلافها، وكل من تطوع في السهر على وقاية شعبنا، بمن فيهم أولئك الفدائيون الذين حاولوا بسط سيطرة السلطة على جغرافيا لم تكن أبدا في حساباتها، أو مرماها على أرض الواقع.
في العلوم العسكرية، تكون الغارة دائما منتقاة زمنا ومكانا وأهدافاً، وتكون المناوشات متقطعة في سياق العمل على استنزاف العدو، بينما تكون الحرب شاملة بكافة الأدوات وعلى كافة المسارح، وتدخل فيها حسابات كثيرة، وأهمها كيفية الخروج منتصرين بالمعنى الشامل، والثمن الذي علينا دفعه، والذي نستطيع تحمله، وسبل وخطط وبرامج التعافي الشامل بعد أن تضع الحرب أوزارها، سواء بالنصر أو الهزيمة. العدو في حالتنا فيروس "COVID-19"، ولا مفر من الحرب الشاملة عليه، والتي سيزاح الستار في نهايتها عن أبطال وشهداء وجرحى وذكريات إنسانية واجتماعية زاخرة، وسينشغل الكتاب والباحثون والسياسيون والمدعون بنسج رواياتهم عن الدور المحوري لكل منهم في جلب النصر أو محاولة منع الهزيمة.
وبينما تدور رحى المعارك الضارية لقهر الفيروس، ويتفنن الجنرالات في وصف بطولاتهم خلال المواجهة، يئن الضحايا من العامة في سكون الليل لوحدهم بصمت في محراب ضجيج المشهد وبين قعقعة تصريحات المحاربين. يبيت كل من الضحايا لوحده متدثراً بجوعه وهمومه الشخصية وتحديات لقمة العيش، فلا "أم محمد" قادرة على نشر بستانها على الرصيف، ولا خليل يستطيع المناداة بزهو من على بسطته "3 كيلو بعشرة"، ولا أصحاب الياقات قادرون على فعل شيء يقنع رب العمل بأنهم أهل لمكافآتهم الشهرية دون نقصان. في هذه الأجواء السرمدية، تستيقظ السكينة بين الفينة والأخرى على صوت مذيع ملقن بإتقان، وهو يجود بما في قريحته من وصف لعبقرية القيادة وجنرالاتها في مسيرة نصرها المبين.
في سكون الليل أيضا، يأوي صغار الكسبة والعاملون لحسابهم والمستثمرون المجازفون بحفنة شواقل في ورشهم متناهية الصغر وأصحاب الشركات العائلية في صوامعهم، بدموع وخوف وإحباط لما آلت إليه حالهم في زمن الكورونا، يناجي كل منهم بطريقته رب الكون، يتضرعون ويتمنون أن يمدهم بباقي كرامة أمام أسرهم وعمالهم وموظفيهم ودائنيهم، بعد أن تسللت الفاقة وقلة الحيلة إلى أوصالهم، وأسقط بيدهم وهم يشهدون تهاوي أبراج الأمان الاقتصادي في خضم حرب ضروس، همها وهدفها الأول تسجيل الأهداف وتحقيق النجاح، وليس مهما في أوج ذلك "موت المريض" وإنما نجاح الحرب، والغرق في صخب احتفالات النصر لاحقا بعد انقشاع العاصفة، والاستمتاع بثقل النياشين على الصدور، وبريق الأوسمة وأكاليل الغار، وهي تنهال على من "حققوا النصر وأنقذوا الأمة"، بينما تذوي الرواية الشخصية لمعاناة كل منا على مذبح النسيان.
شخصيا، أومن بالنصر الشمولي أو الهزيمة الماحقة، ولا أعتبر تحقيق الإنجاز في جبهة على حساب غيرها إلا نصراً تكتكيا لا يقود بالضرورة إلى النصر المبين. ولذك فإن جهود حكومتنا وجيشها في كنس "الجائحة الصحية" مقدرة جداً، كما هو مقدر جداً تجاوب شعبنا والتزامه، بشكل عام، بتعليماتها وإجراءاتها الوقائية، وإننا جميعا ممتنون للظروف والعناية الإلهية وجهود الحكومة بجيشها، لأنه وبعد تجربة ما يقارب شهرين من اكتشاف الجائحة، فإننا نجزم بأن الفيروس ليس أصيلا هنا، وليس بالشراسة التي يتصرف فيها بدول العالم الأول، خاصة أن شهداءنا في هذه الحرب اثنين فقط لتاريخه، ممن أثقلتهم أمراض وعلل أخرى، ولم تصنف إصابات حرجة لدينا حتى الآن، ونحن على هذا المنوال منذ البداية.
شئنا أم أبينا، فإن هذه الحرب المفروضة علينا شاملة، فهي صحية واقتصادية واجتماعية وسلوكية وسياسية وأمنية وجماعية وشخصية، ويتوجب أن يكون الاستثمار في تحقيق النصر شاملاً أيضا في كافة المجالات آنفة الذكر. لذلك، وأعلم أن هذا الرأي لن يحظى بشعبية لدى بعض الأروقة، فإن هذه الحرب التي نخوضها اليوم ناقصة، وسيكون النصر ناقصا بالقدر نفسه، ما لم نستدرك.
إن الإنسان "أغلى ما نملك"، ولكن ما نفع تحقيق انتصار صحي يترافق مع انهيار اقتصادي يهدر كرامة العيش، وقد ينتج عنه إزهاق أرواح بأضعاف، ويفاقم الأمراض الاجتماعية والسلوكية، ويحلل تفشي الاستغلال وامتهان التمنع عن الوفاء بالالتزامات الذاتية، كما يحدث الآن في مهزلة عدم الوفاء المالي من قبل مقتدرين، وتعمدهم منع صرف شيكات مستحقة عليهم بحجة الطوارئ، وهم موسورون.
مختصر الحديث أنه وعلى الرغم من الجهد المبذول ومبادرات الحكومة ورئيسها، مثل إطلاق صندوق إقراض المنشآت الصغيرة والمتوسطة، والذي لا توجد معلومات تذكر حول غاياته وحوكمته، وصندوق "وقفة عز" لجمع التبرعات من القطاع الخاص وصرفها "وفقا لتوجهات الحكومة"، فإن حكومتنا، وفي الوقت الذي أبدعت فيه بتوفير شبكة الأمان والوقاية من "الجائحة الصحية" بتعاون الجميع، لم تولي اهتماما كافيا بالتحوط والاستثمار في التخطيط ووضع البرامج وحشد الموارد في مواجهة "الجائحة الاقتصادية" المتبلورة، التي يشهد عليها شلل الاقتصاد خلال حالة الطوارئ غير معلومة النهاية، خاصة أن انتهاء "جائحة الكورونا" لن يكون طويل الأمد في ظل المعطيات على الأرض وجهود الحكومة والمحيط، بينما سيمتد أثر "الجائحة الاقتصادية" إلى سنوات.
برأيي المتواضع، فإن بطء الإجراءات والمبادرات الحكومية في مجال الإنقاذ والإنعاش الاقتصادي، سيؤدي إلى انكشاف مريع في حالة وقدرة الاقتصاد الوطني على الصمود، وتبلور "كرة ثلج" ستتدحرج في باقي القطاعات. وقد تجد حكومتنا نفسها غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه موظفيها وشبكة الأمان الاجتماعي خاصتها، للنقص المتوقع في مواردها. وقد يتعمق غرقها في الديون للقطاع المصرفي والموردين، وربما إسرائيل، في ضوء التوجه للسحب منها على المكشوف. وهنا تحديداً أخشى أن تستغل إسرائيل و"ربيبتها" أمريكا هذا الوضع لاتخاذ المزيد من إجراءات فرض الأمر الواقع، ليس بفرض السيادة على الأغوار فقط، وإنما في المساومة على تطبيق الشق الاقتصادي من "صفقة القرن".
لقد كتب العديدون حول الحاجة الماسة لإيلاء الاهتمام بالتأثيرات الاقتصادية لجائحة كورونا، وبادر بعضهم إلى اقتراح خطط وبرامج لمعالجة أزمة البطالة في المدى القريب، وبقدر ما هي مقدرة بالتأكيد، فإنها تبقى فردية. ولذلك، على حكومتنا الرشيدة أن تكون أكثر انفتاحا واستعدادا للعمل بالشراكة الفعلية مع الخبراء والقطاع الخاص والجامعات ومراكز البحث وغيرها، على بلورة خطة إنعاش اقتصادي شاملة، واستراتيجية وبرامج واقعية وجادة للتعافي. وبذلك تطمئن جيوش العاطلين عن العمل وصغار الكسبة، وغيرهم ممن تبخرت أو كادت تتبخر مصالحهم الاقتصادية، ويشرق الأمل في وطننا عن حكومة متجاوبة (Responsive Government)، ومؤهلة وقادرة على التمثيل الأمين لمصالحنا.
إضافة إلى أنه من شأن ذلك الإضافة إلى رصيد حكومتنا، المعتدة بإنجازها في مواجهة الجائحة، وتأهيلها لنصر في الحرب الشاملة على كافة القطاعات. وإنني أدعوها إلى التحلي ببعد النظر والاستثمار في ما بعد انقشاع "جائحة الكورونا"، حتى ننصبكم نحن الشعب، الذي سيدفع الثمن في كل الأحوال، أبطالاً خالدين في مسيرة قهر "الجائحات"، ونزين صدوركم بالنياشين والأوسمة، بصفتكم "منقذو الأمة". اللهم إني قد بلغت، فاشهد.