تقديم:
كان يفترض أن نناقش مع الفيلسوف الكندي آلان دونو مضامين الكتاب الثالث عن "حلقته النظرية'' المنصبة حول الاقتصاد، وكذا الجمال، الجزء التالي للإصدارين السابقين خلال السنة الماضية حول اقتصاد الطبيعة وكذا اقتصاد الاعتقاد. لكن داهمنا وباء كوفيد 19، وخلفه ألف سؤال اقتضى المقام طرحه على صاحب كتاب ''نظام التفاهة' 'فيما يتعلق بتبجُّح الجَنَّات المالية والشركات المتعددة الجنسيات.
إذن، انطلاقا من فضاء منزله المتواجد في مقاطعة نيوبرونزويك الكندية، حيث يداعب طفلته الصغيرة المولودة منذ شهر تقريبا، سيحاول آلان دونو توضيح كيف يمكن لهذا الوباء، ونحن نعيش جميعا وضعية العزل الصحي، أن يرسم لنا معالم مستقبل.
س- كتبتم مقالة على صفحات جريدة ليبراسيون أوضحتم بين فقراتها أن هذا الوباء بمثابة غايا جديدة (الأم/ الأرض في الميثولوجيا الإغريقية)؟
ج- بالفعل، نجابه حاليا معطيين. من جهة، وباء يستدعي حتما خطابا ينصب على الأوبئة، طبيا، صحيا، اجتماعيا، عقلانيا. ومن جهة ثانية، حضور الوباء باعتباره ملهما للفكر. فجأة، أصبحنا نفكر حسب أصعدة، وبناء على رهانات لم تكن معتادة يوميا. هكذا، يحلق الخيال نتيجة الوباء، المرعب والقاتل ضمنيا للعديد من البشر، صوب ماض لم نعتد على استحضاره. يجري الحديث مرة أخرى عن الجذام، والأنفلونزا الاسبانية، والملاريا، فتأكد بوضوح، أن الشعوب استعادت فجأة الذاكرة جراء جسامة ما يحدث، على عكس ترسخ اعتقاد مفاده أنها بلا ذاكرة، غير آبهة بالتاريخ، مكتفية باليومي. إذن، استُدرجنا كي نفكر ضمن إطار يلامس هذا المستوى، وأيضا في مستقبلنا ضمن المدى البعيد. نقول جماليا، بأن واقعة الوباء ستطلق العنان لسرد، يهتم بالفعل، والموقف، ثم تدابير مغايرة. ندرك بأن هذه الأزمة ليست الأولى من نوعها المرتبطة بنمط حياتنا؛ بل عايننا أكثر فأكثر حرائق الغابات، واكتسحتنا أعاصير وموجات تسونامي، مثلما ازدادت وتيرة الفيضانات بشكل غير مألوف. مساحات الغابات في تتقلص، والأرض تتآكل، ويرتفع منسوب ذوبان الجليد… وضع فتح عيوننا حيال مشاكل مصيرية مرتبطة بنمط حياتنا وبأن القرن الواحد والعشرين يشكل فرصة لتغيير أسلوبنا. إما اختيار ذلك أو المعاناة. يتحتم تغيير المنظومة، وضرورة أن نعيش بطريقة مختلفة. فالرأسمالية كما عهدناها لا يمكنها الاستمرار. دون الإشارة هنا إلى واقع الأزمة المتعلقة بالطاقة والمناجم. نتيجة مختلف ذلك، يجدر بكلمة اقتصاد تجاوز دلالتها المنبنية على الانتظام في مساعدة مالكي الأسهم قصد مراكمة رأسمالهم.
س- فعلا برهنتم في سلسلتكم النظرية، على أن كلمة اقتصاد ثرية الدلالة، وليست حكرا فقط للاقتصاديين.
ج- لقد سعيت خلف سياقات استعمالاتها، غاية اكتشافي مع تعاقب السنوات، بأنها تقوم على التفكير في العلاقات الجيدة، والسليمة بين العناصر، وكذا الأفراد، ثم الأفراد وأفكارهم، والتمثلات الرمزية… الاقتصاد بمثابة فكر للعلاقات السليمة على امتداد حقول شاسعة. هناك دائما شيء يتجاوزنا حينما نهتم باقتصاد ما. فالعلاقات متعددة جدا ولا يمكن حصرها ضمن نطاق نموذج. راهنا، بسبب الوباء الذي أصابنا، نجدنا أمام مشكلة اقتصادية. لا أتكلم بهذا الصدد من زاوية الأسواق المالية، ومردودية المقاولات وتسريح العمال – رؤية متعلقة بالتدبير لا ينبغي إهمالها- بل عن اقتصاد تجاوز هذا الإطار. يضمنا عالم لم يعالج قط صلته بالكائن الحي، واتجه اهتمامه نحو تسوية شبكة لصالح الأقوياء جدا على حساب الأكثر ضعفا، بالتالي نختبر الصدمة المعاكسة لغياب المعنى الاقتصادي بدلالته الواسعة.
س- ساد الاعتقاد منذ بضعة سنوات أننا سنواجه تقريبا خلال مستقبل ليس ببعيد أزمة بيئية تقريبا. ثم أتى هذا الوباء سريعا كي يعبئ أفكارا بقيت متوارية.
ج- الكلمات مهمة، تكلمنا باستمرار عن أزمة بيئية باعتبارها معطى يكشف عن نفسه، ويكتم أنفاسنا. تكلما بهذا الصدد عن الانهيار، والقطيعة. اختيار هذه الكلمات، المنطوية على حس، أقرب إلى نهاية العالم، يدفعنا نحو تبني موقف ينهض على التسويف مترقبين حتمية الاصطدام بالجدار خلال أي لحظة من اللحظات. علما، أننا نقتفي سلفا آثار هذا الطريق منذ عقود. لهذا السبب، فضلتُ من جانبي الحديث عن تآكل تبعا لدالَّة أسِّية. فالأشياء تتآكل، تترهل، وتتفتت ببطء. لكن حاليا، قد يتحقق ذلك في غضون عشر سنوات أو خمس عشرة سنة. نمتثل لمنطق الفاعل، هكذا تسير الأشياء صوب الانهيار. نعيش فعلا تطورات انهيار بوسعنا إدراكه تقريبا في إطار اليومي وسيتجلى أكثر فأكثر بكيفية مخيفة.
س- بناء على ملاحظاتكم، أي نوع من السرد بصدد التشكل آنيا؟
ج- لدي جواب بسيط جدا. هناك أمل أصمّ لدى العديد من الأشخاص مفاده أن إيديولوجيا السلطة المهيمنة- لا تعود فقط إلى حزب سياسي، بل المؤسسة المالية، والصناعة الكبيرة، وكذا رجال المال- صادقة. بالتالي، سيكون عاديا جدا إن كان الخطاب الإيديولوجي الماسك بالسلطة يقول الحقيقة! خبراء يهتمون بكل شيء، ومختلف شؤوننا بين أيادي آمنة، بحيث ندرك حيثما اتجهنا، بأن النمو مضمون. مصادر الطاقة، متوفرة باستمرار، وكذا جاهزية حلول تقنية للأزمة البيئية، وتواجد دائم لمتاجر كبيرة مع وفرة منتوجات بوسعنا استهلاكها على الدوام. تأويل من هذا القبيل، يعتبر مجرد وهم، نتمسك به تماما وباستمرار إلى درجة اعتقادنا المترسخ بجدواه. إذن، اليوم الذي نتخلص من وهمية التصور، يتوقف على لحظة تباين مطلقة بين الخطاب الأيديولوجي المهيمن وعدم تطابقه مع حالة الواقع. حينذاك ينتابنا الضجر كثيرا من حالة الواقع ونحن نكتشف المفارقة الواضحة بين حالة الواقع مثلما يعكسها تاريخنا قياسا للخطاب الإيديولوجي الذي يجتهد في سبيل التمويه. لحظتها يغمرنا الضحك عندما يحضر خبراء كي يحدثونا عن نمو لانهائي. وأظن أننا بلغنا ذلك.
س- لقد بلغنا تلك اللحظة؟
ج- نرى فعلا هذه الرأسمالية المُعَوْلمة الهائلة مع كيانات قوية متعددة الجنسيات، وكارتيلات في المجال المالي، عمالقة يقفون على أسس واهية، هشة إلى أقصى حد، ومترابطة بشبكات دقيقة للغاية بحيث أن أقل هزة تعرفها منطقة ما، يبعث في ذات الآن سلسلة هزات تضرب أيضا أقصى جهات الكرة الأرضية، لذلك تعطس الصين، فيصاب كل العالم بالزكام. محضر إثبات، يؤكد بأن هذا النظام ينم عن كثير من الضعف. من جهة ثانية، لدي قناعة شخصية مفادها أن العديد من الأشخاص الذين يعانون حاليا جراء تداعيات هذه الوضعية، نفسيا وماليا وماديا – يتجه تفكيري إلى المأجورين، والحرفيين، والمشرفين على مقاولات صغرى، مختلف هؤلاء الذين يقفون عاجزين عن أداء فواتير الكراء، ثم مختلف الفواتير، إلخ- أعتقد، بالنسبة لنا جميعا، وبشكل عام، سواء من يكابد أو غيره، يحضر نوع من الرضى وقد توقف أخيرا إلى حد ما، هذا المسار.
س- نعيش داخل مجتمعات المنافسة، حيث الإرهاق والتأزم النفسي، حرمت الأفراد من أزمنة تخول لهم البقاء إلى جانب أفراد أسرهم. ثم فجأة، أجبروا على استراحة وبصيغة أخرى تقويم حياتهم.
ج- حتما، وقد أصبتم تماما بإشارتكم إلى أعراض مرض ينخرنا فوق نار هادئة. تبرز انعكاسات عدم الارتياح في العمل من خلال الإدمان على الخمر، والالتجاء إلى تناول مخيف لمضادات الاكتئاب، والعقاقير النفسية المهدئة، وحالات الأرق الحاد، وقضايا الانتحار. بل نرى في فرنسا، مستخدمين كما الشأن بالنسبة ل"فرانس تليكوم"، يقتلون أنفسهم سياسيا قصد الإبلاغ عن مقاولتهم. فليتوقف هذا الانزعاج. أيضا، بوسعنا الحديث عن التوتر الذي يمثله التقادم المُبَرْمج، بحيث يركز نظام العمل على خلق أشياء سرعان ما تغدو عتيقة كي تستدعي تَوَّا إلحاحية تجديدها. تؤطرنا وضعيات شاذة جدا، بالتالي يمكن لتوقف من هذا القبيل أن يقود فجأة أشخاصا كثيرين كي يعيدوا ربط ذواتهم بالجوهري. إذن، انتقلت المدرسة إلى داخل المنزل، والتفكير في زرع حديقة للخضراوات خلال هذا الصيف، الاطمئنان على أحوال الجيران والأقارب.جراء مختلف ذلك، يمكن أن نكتشف داخل ذواتنا مواهب لم نكن نعلم بها سابقا.
س- ذلك ما طرحتموه في عملكم نظام التفاهة؟
ج- مع دهشتي، لما أثاره هذا العمل من اهتمام كبير في فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، والعالم العربي ثم منطقة كيبيك خاصة. وبغض النظر عن مضمون الكتاب، فقد عَكَسَ ذلك إشارة غير مطمئنة. نوع من التماهي مع آليات تحليل يكشف أبعاد سعيهم كي يجعلوا منا رديئين، من ثمة الشعور بالاستياء، نحو شيء غير مقبول بهذا الخصوص. لذلك، تمثل اللحظة الراهنة فرصة لتعديل جماجمنا والتفكير في صلة مع العالم، أكثر حرية، تسيدا، ثم مُبَنْيَنة وبناءة.
س- في ذات الآن تقدم الولايات المتحدة الأمريكية رئيسا يتطلع أكثر إلى إنقاذ الاقتصاد بدل حياة الأفراد، لكن جانب شعبيته لم يتراجع.
ج- يمثل ترامب موضوعا قائما بذاته ونموذجا استثنائيا عجيبا. ما يدهشني أكثر، يكمن تحديدا في الظاهرة المقابلة، بمعنى فجأة، تذكرت ولايات بأن لها صلاحيات على مستوى الصحة العمومية ومصلحة مشتركة ويمكنها فجأة أن تصبح لها سلطة سيادية على الجانب المالي والصناعة الثقيلة. إنه أمر غريب! ما دامت رؤية ولايات تتبنى اختيارات الرأسمال الكبير، قد ترسخ منذ قرنين. بالتالي، محاولة ادعاء عكس ذلك ينطوي حتما على موقف صاعق. من جهة أخرى، وبالنسبة لفرنسا يلاقي تأكيد هذا الخطاب الاجتماعي، صعوبة كبيرة. هناك علم بوجود حكومة ورئاسة ليبراليتين جدا، في حين يسود خطاب عسكري : نخوض ''حربا" ضد الفيروس. بينما عندنا في كندا، فيتجلى ذلك بحدة أقل. أيضا، وبالعودة إلى موضوع الولايات المتحدة الأمريكية، نلاحظ استياء كبيرا، نتيجة مستجدات وضع يتنافى مع المألوف حين رؤية ولايات بورجوازية رأسمالية تطلب من التمويل المالي، وكذا الصناعة البيترولية والمنجمية والسياحة، بالتوقف لدواعي صحية تهمّ العموم. لو قلنا هذا قبل ستة أشهر، فلن يصدقنا أحد. لكن، لأن هذا الفيروس هاجم مختلف الطبقات الاجتماعية. الأثرياء، الفقراء، البيض، السود، الحضريين، القرويين، بمعنى الجميع. هكذا، تعرض الأعمى لصفعة، بكيفية شرسة ومباغتة، ما دام الوباء لا يكترث بحدود أو طبقات مجتمعية وصار فجأة موضوع حالة وطنية مستعجلة، وأدرك الأوليغارشية في عقر دارها. أن يحظى حقا سؤال القطاع الصحي، باهتمام مركزي داخل البلد، افترض منذ زمان حظرا للوجبات الغذائية السريعة، ثم التصدي بجدية لقضية المناخ. لكن ردة الفعل الحالية سرعان ما تبلورت لأن الطبقة المهيمنة تعرضت لهجوم مباشر.
س- ما نحن بصدد متابعة مجريات وقائعه ليس نهاية العالم، بل لعالم معين؟
ج- يتوقع المؤرخون أفضل منا، بخصوص تقييم الوضع، لكننا بكل بداهة نعيش سياق تحول يتعلق بالكائن، اقتصاد الطبيعة ثم حتمية إعادة صياغة الخطاب الاقتصادي. فلا يمكن للاقتصاد البقاء ضمن نطاق اقتصار دلالته على معارف تدبيرية. بل، ضرورة عودته الفورية إلى منبع الخطاب الذي يتجه اهتمامه نحو الكائن الحي، والمؤثرات، والاعتقادات، ونماذج التنظيم، والعلامات ثم الرموز التي تجعلنا نتفاهم خلال لحظة تاريخية، ونرتب أمورنا، ثم نتداول بخصوصها. لا يمكن للاقتصاد الاستمرار ب''التركيز'' خلال فترة طويلة على تلك ''المادة الرمادية'' قصد الحصول على ديبلوم، يجعل منا ''موردا بشريا'' مطلوبا لسوق العمل، خلال لحظة ندرك معها كيفية ''عرض ذواتنا للبيع''، متحايلين على طبيعة ''مشاعرها''، يلزم الاقتصاد القطع مع هذه الصورة.
س- قلتم في مقالكم السالف الذكر، بأن صحوة الوعي وكذا الانشراح تشكل تدابيرنا النفسية المرشدة نحو المستقبل. لماذا؟
ج- من البديهي أن تتهيأ البشرية خلال القرن الواحد والعشرين كي تختبر مهلة سيئة، ويدوم سياقها طويلا. لكن سيشكل ذلك فرصة، مثلما نعيشها حاليا مع هذا الوباء، حسب جرعة الأسلوب العلاجي للطب التجانسي، كي نكتشف مخططات، ومواهب، وقوى، وكذا الاستثمار في أنشطة استعادت معناها فجأة. هي فرصة إذن، للانخراط في تنظيم وكذا تدبير عالم يشبهنا إذا قاومنا إغواء الفاشية، فالمسألة ليست هينة، وأنت تكتشف نفسك ضمن مسار تحول مصيري. حظ تاريخي أتيح أمامنا كي نتخلص من نظام ظالم وكئيب. ثم نتطلع نحو المستقبل بكيفية متبصرة. مع العلم، بأن الرأسمالية لم يعد في متناولها أبدا الاستجابة للمقتضيات المطلوبة خلال مستقبل قريب، فلن يكون النفط متوفرا بكمية وافرة، ويسير المنال، أو مناجم متاحة. كما أن النظام البيئي، أبدى استعداده كي يراكم لديه جل ما أرغمناه سابقا على تحمله، ثم ينعكس علينا ذلك مثلما يحدث حاليا. إذا لم ننتبه بجدية، سنكابد فترات صعبة جدا. مما يدعونا، إلى الانكباب على العمل وفق ما يمكنه أن يشكل الحد الأدنى المطلوب. لكن، دون التطلع نحو هذا المستقبل، بصرامة يكتنفها القلق والاضطراب، لأن النتيجة ستكون بلا جدوى، وتظل عقيمة. في المقابل، يتجسد الوضع الأكثر التزاما وخصوبة، في تحقيق صلة واضحة بممكنات هذا المستقبل قدر كونه أيضا مناسبة مؤثرة بخصوص الإفصاح عن قيم الانشراح، والإباء ومعاني تتجاوز كثيرا ما نعرفه حاليا عن طنين روتيننا الوظيفي والخاضع. قلت منذ فترة لصديقة أبدت فزعها من المستقبل الذي ينتظر أبناءها، بأنه في حالة تحققه، ومع الصعوبة الشديدة لذاك المستقبل، فسيحظون على الأقل بحياة أكثر مقارنة مع رفاهيتنا غير المطمئنة. بالتأكيد، أنا أيضا لدي حياة أسرية، ولدي وجهة نظر جماعية، أقول سيدركون القوة التي تمكنهم من العثور على وجود يشبههم.
** مرجع الحوار :
La presse :31- 03- 2020.