(عَن لَحظة البَيت الأول من القَصيدَة)
شذا أبو حنيش / فلسطين
حينَ أبدأُ بالحَديث عَن القَصيدَة لا بُدّ أنصاعَ لِما تُمليهِ عليّ نَفسي , نَفسي الغارِقَة في بَحر الشّعر ولا أقصد هُنا بكلمة (بَحر) المَعنى العروضي للشّعر , فأنا مِن جيل قَصيدة النّثر الّتي إرى فيها تجلّي روحي وانعتاقي مِن حَبل المَشنَقة الّذي يمكن أن يلتَف حَول عُنقي حتى تَضيق أنفاسي بالقَوانين فأقرر الخروج منها إلى فُسحة الأبَد.
القَصيدَة بالنسبة لي جدليّة المَوت والحَياة، الحَد الفاصل بَين لَونين مُتطابِقين، فالنّزوع الى الكِتابة تُشبه لحظة أن تقرّر الفَصل بَين المِلح والسكّر، تلزمك الشّجاعَة والذّائقَة واحتمالِ المَوت، المَوت في سَبيل مُواجهة المُستحيل واللا مَعقول.
لَحظة كتابة القَصيدة هي لَحظة خارِجَة عَن المألوف، لَحظة اللا وَعي الّتي يَذهب بها الذّهن الى أبعَد نُقطَة وكلّما كتبت في القَصيدَة كلمة كانت طَريق الرّجوع الى الوَعي، فبَعد إنهاء القَصيدَة تُصيبني صَحوة، وأحسّ بالضّوء يتسّرب الى عينيّ، كَمن يَخرجُ مِن كهف ويُواجه الشمس.
أما فيما يَقول بول فاليري (أن الآلهة تمنحنا البيت الأول من القصيدة بظرف وبدون مقابل أما البيت الآخر فعلينا صَنعته) فلا أتفّق مَعهُ بالكامِل.. فالموهبَة الشعرية مِنحة من الألهَة، أما البَيت الأوّل مِن القَصيدَة فهو ثمرة البذرة المَزروعة في داخل الشّاعر، ولكل شاعر بذرته، لذلك يختلف طعم الثمر من قصيدة إلى أخرى، فالتّجربة الشّخصية تُحدّد مَسار الكِتابَة لدى الشّأعر وكذلك العوالِم الّتي يلجها والمَشاعر الّـتي يختبرها، أما بالنّسبة لي فيبدأ البَيت الأوّل بالتمتمَة وكأني أحاول أن أقول شيئا لَم أدركهُ بَعد لكنني واقعة تَحت سَطوته، كَمن يَلحظ البَرق في عرض السّماء ويُحاول تَخليد هذا الضّوء.
لَحظة البَيت الأوّل مِن القَصيدَة يُرافقها تحوّلات نَفسيّة وكذلك جَسديّة كلحظة الوِلادَة لَدى المَرأة، لَحظة ألَم وترقّب وتَنفيذ لطبيعَة ما، فالشّاعر يخضَع لمخاض كَي يُنجبَ القَصيدَة ويَختلِف شَكل المَخاض أيضا، فهُناك وِلادَة عَسيرَة وهُناك وِلادَة يَسيرَة، لكن تَبقى القَصيدة الكائِن الّذي يَنبثقُ مِن رَحم الشّاعِر/ قَلبهُ.
كَما أن القَصيدَة تُشبه لَحظة اشتِهاء عِناق ما، عناق شيء مُطلَق يَسمو بي فَوق مُستوى الواقِع المادّي، والمَرَض المادّي، لأدخلَ في كومه الكِتابَة تَحيط بي الكلمات والخيالات والصّور، والغِبطة اللا مُنتهيَة، الّـتي هي لذّة الشّاعِر.
فكَما أنّ الحُب يَقود إلى الإنتِشاء، فإن القَصيدَة تأخذني إلى سَرير انتشائي وكأنّها شَريكي في مُـتعتي الأبديّة ووجعي الأبديّ.
اما عَن طُقوسي في الكِتابَة فَهي جَميلة، ربّما أجمَل مِن الكِتابَة ذاتِها، فالطّريق إلى البَيت أحيانا أجمَل مِن البَيت، فلحظة الكِتابَة لحظة رَعشة ذهنيّة وسقوط في قاع القَلب لاستخراج اللؤلؤة، كَما أنها تُشبه لحظة تمايل الجَسَد على إيقاع موسيقى غجريّة تَفتح داخل الحَياة أبوابا مِن ألوان وسماوات أكثر علوّا وأبديّة.
فقَلب الشّاعر كالحَقل الواسع والخَصب الّذي يَنتظر البِذرَة كَي يُزهر، ربّما تَكون موسيقا ما أو لوحة ما أو حالة نفسية ما هي اليَد الّـي تَزرع بذرة الشّعر في حَقل الشّاعر.
لا أعرف كَيف استرسلتُ بهذا الحَديث وانا الّتي أشعُر أن القَصيدَة سر لا يَفتضّه إلا صاحبه، أكتَفي بهذا وأعودُ إلى غُموضي وغُموض قَصيدَتي كالطّاهي الّذي لا يُريد أن يكشفَ سرّ الخَلطَة كَي لا يُفسدَ الطّعم !