السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

قراءة في ديوان "أندم كلّ مرّة"

لعصفور الشمس الفلسطينيالشاعر وليد الشيخ

2015-02-11 12:16:44 PM
 قراءة في ديوان
صورة ارشيفية
 
بقلم: أمين دراوشة
 
تمهيد
في ديوانه الشعري الجديد، يخطو الشاعر والروائي وليد الشيخ في مشروعة الأدبي خطوة كبيرة إلى الأمام.
فهو لم يكرر نفسه كبعض الشعراء الذين يهتمون في الكم وليس في الكيف، وأبدع مجموعة من القصائد المليئة بالصور والرموز والموسيقى الداخلية التي تتحرك عبر القصائد من خلال إيقاع الألفاظ التي تعبر عن معاني مترابطة كأنها حلقة نار.
قسم الشاعر ديوانه إلى ثلاثة عناوين فرعية هي: رومانس، بالستينا، رصاص طائش.
في القسم الأول الذي يفيض بالحزن والحنين والشوق يبحر وليد الشيخ في الذكريات، التي لا تتركه لحظة واحدة، وتظل تلح عليه بحضورها الطاغي، ولا تنفك تزوره حتى لا ينسى شقاوة الشباب، وجنون الرغبة، والألم اللذيذ الذي يحيي الذاكرة وينعنشها ويزيدها اشتعالا. لذا نراه يبدأ ديوانه بقصيدة "البهجة وتتوالى بعد ذلك عناوين هذا القسم لتدلل إنه رغم كل شيء فما زالت البهجة (الحبيبة، الوطن) ورغم إنها ظلت الطريق مرارا إلا إنها تعود لتحيطه بالحنان ورائحة زكية ليطير في حياة خارج الزمان والمكان.
رومانس
نلاحظ من عناوين بعض القصائد غلبة عناوين الوجع والمرارة (زمن، الإثم، الميت، غياب، حنين، المغفرة).
يقول الشيخ في قصيدة زمن:
"كلما صادفتك
تعيدين الأبيض والأسود للصور الملونة
أشد آخر اليوم من ذيله
مثل فرس طموح" (ص19)
فذكرياته كأنها فرس جموح وطموح تصهل دائما وأبدا لتشده إلى تلك الأيام العذبة التي ذهبت بلا عودة. والحبيبة أيضا لم يعد لها من وهج الحياة إلا الذكريات. يقول في قصيدة "غياب":
"قلبك ملتاع بالنوايا
ولم ينتبه أحد حيث رضابك جفّ وأنت تودعين اللذائذ
خزانة الذكريات" (ص17)
ولا يمل الشاعر من أمل أن تعود إليه الحبيبة حقيقة، لذلك سيبقي:
"الباب مواربا ظل
كي تدخلين بخفة ظبي
وتقترحين الغياب" (ص17)
رحلت الحبيبة ولم يتبق في حياة الشاعر غير طعم قبلاتها العسلية والمغامرة والمقدامة كثوار الجيش الجمهوري الإرلندي، يقول في قصيدة "تشبيهات":
"فيما تبقى على شفتيك اليابستين من قبلات حفضت طعمها:
الشفافة كأنكَ لم تذق شيئا
الحامضة كماء الخوخ
الغارقة في جرة العسل
المقاتلة كجيش ايرلندي السري" (ص21)
ولكنه سيبقى وحيدا يتجرع الذكريات التي تعود ولا تعود:
"وحدك الآن،
يمر الليل كله" (ص22)
يحاول الشاعر أن يلقي باللائمة على الزمن الذي لا يرحم في خيبته، وكأنه يريد لقلبه أن يهدأ، يقول في قصيدة "الإثم":
"بعد خريف آخر
سيظل خيط الماضي
ملفوفا كقلادة سامة
حول عنقك" (ص25)
هل يسقط الشاعر عجزه عن الوصال الدائم بالحبيبة عليها أم على القدر؟
ونرى الإجابة في قصيدة "المغفرة"، والتي يقول فيها:
"أيتها المغفرة
لم أجد لك آذانا فأهجس فيهما
ولا أصابع
لأمسك أطراف الهذيان" (ص29)
ولم يكن هناك مترو يساعدني في الوصول إليك، ولا يوجد عنوان إلى بيتك يا (كاتيا) إلا في قلبي.
يكشف الشاعر عن حبيبته بوضوح، فهي فتاة روسية عاش معها قصة حب ملتهبة، سكنت قلبه، إلا أن القدر لم يشأ لقصتهما إلا الانتهاء بالفراق، فلم يتبق له غير رائحتها التي لا تزول، والتي تمده بالقوة كي يستمر بالحياة رغم الشعور بالألم والندم إنه لم يقدر على الاحتفاظ بها.
غابت وتركت خلفها ضيوف ثقال الظل، لا يتركوه يهنأ بالنوم والراحة، إذ يقسو عليه الندم والحسرة وتطارده الملامة، ويقفل عليه ضيوفه أبواب ونوافذ الأمل، يقول في قصيدة "الضيوف":
"الندم وأخوته،
الملامة أصغرهم.
وكنت أريد أن أنام
لكن أرجلهم تمددت على الفراش
وأيديهم على الأبواب
ونواياهم أغلقت النافذة" (ص37)
إلا إن هناك قوى غريبة ومجهولة ما زالت تشده بقوة إليها، يقول في قصيدة "مقولات":
"ليس صدفة
ولا ضرورة
أني أحبك
هي هكذا تماما
لا صدفة
ولا ضرورة" (ص33)
 
رصاص في فلسطين
يعيش الشاعر الهم الفلسطيني ومعاناته فهو أحد أفراده، لذا هو يحيا في حالة رمادية لا يملك حياته فهي رهينة للاحتلال والتواطؤ العربي والدولي، يقول في قصيدة "إشارة مرور":
"منذ 46 سنة أمرّ قرب إشارة المرور:
لم أعبر مرة واحدة عند اللون الأخضر
ولم أتوقف ولا مرة عند اللون الأحمر
منذ 46 سنة
وأنا أمر
عند إشارة اللون البرتقالي" (ص103)
وككل المستضعفين في العالم، انتظر بطلنا المد الثوري الشيوعي، يقول في قصيدة "انتظار":
"انتظرنا طويلا
تأخر الشيوعيون
وحين وصلت حافلتهم كانت المناجل والشواكيش صدئة
في الكوخ" (ص63)
منّى الثائرون الاشتراكيون الفلسطينيون النفس بالثورة الشيوعية ووصولها إلى أرض فلسطين المحتلة حيث انخرط العديد من الناس في الأحزاب الاشتراكية، واعتنقوا مبادئها، ولكن كل هذا لم يجد نفعا، فبعد الانتظار الطويل، لم يوجد في النهاية غير أدوات ثورية صدئة غير صالحة للاستعمال، والخيبة الكبيرة، وتم الإطاحة بالآمال العريضة لدى كل من تبنى الفكر الاشتراكي، وهو يرى الاتحاد السوفيتي يسقط في هاوية التمزق والتشرذم والضعف أواخر القرن الماضي.
ويعود الشاعر في بعض قصائده إلى طفولته المتخطاة في مخيم الدهيشة، فالفلسطيني يولد ولا يرى طفولته إلا عبر المجنزرات والمصفحات العسكرية وجنود الاحتلال الذين لا يرحمون طفلا ولا كهلا. فالناس يؤثر فيهم الزمن، والناس "تدفعهم قوى داخلية لا واعية لا يملكون زمامها، أناس تتحكم فيهم الذكريات، من ذكريات شخصية وأخرى عرقية جماعية". (بإشراف روي كاودن. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. الأديب وصناعته. منشورات دار المينمة للنشر والتوزيع. بيروت: ط1. 1962. ص135)
والفلسطيني يملك خزان من الذكريات التي يطغى عليها صوت الرصاص والموت، وتستمر الحرب القاسية في فلسطين، يقول الشاعر في قصيدة "الحرب":
"لم يبق من إخوتي أحد
كي أبوح له بالمسرات أو الندم
أخذتهم حروب..."
..............
ولا يجيئون حتى ولو مرة
للسلام على الدار
ولا عادت الدار تكفي لهذا الغياب (ص57-58)
ولكن رغم المعاناة والموت والدمار، ما زالت فلسطين حبة الروح، وإن الاحتلال العنيف سيرحل في النهاية كما رحل الغزاة قبله، وسيبقى الشعب يواجه بكل طاقته الاحتلال الصهيوني وحلفائه.
فهناك إيمان لا يتزحزح في وعي الفلسطيني إن ما حدث ليس إلا حادثا عابرا، وإن الوطن لا بد سيعود، وازداد الإيمان بقرب انتهاء الاحتلال ودحره مع انطلاق الربيع العربي الذي اسقط أصنام الحكم المتحجر، ومع استمرار الثورة بكثير من البلدان العربية كان الحلم يكبر إلا أن الأمر في النهاية انتهى إلى سرقة الثورة من قبل دول الاستعمار القديم والحديث، لتضاف خيبة أخرى إلى خيبات الشعب الفلسطيني الكثيرة، فيقول الشاعر في قصيدة "ثورة":
"وكنت أظن،
أن الأولاد والبنات الذين يصرخون في الشوارع كي تسقط
الأنظمة، يطالبونك أيضا بإسقاط ثيابك كلها
والوقوف أمام شباك تذاكر للولوج على عالم الحرية" (ص52)
إلا أن بعض الظن إثم، ويغرق الشعب العربي في بحر من الدماء، ويتلاشى أمل التغيير، فيلقي شاعرنا اللعنات على هذه الثورات التي أدت إلى انهيار كامل لبعض الدول، واشتعال الحروب الأهلية التي يغذيها الاستعمار بوجهه الديمقراطي الجميل المزيف، فيضيف:
"وأعرف الآن
أني عندما أشتمك بكل هذه القسوة
إنما أقرر فشل المحاولات
في تغيير المزاج العام
أو
زرع عبوات ناسفة
في العقل العربي
كمرادفات متقشفة
تفخخ الدين والجنس والدولة" (ص53)
يشعر الفلسطيني دائما إن قضية فلسطين لا تخصه وحده، بل هي قضية عربية وإسلامية، رغم كثرة الهزائم التي حلت بالأمة، وخذلان العرب للفلسطينيين، كما حصل في ثورة 1936 وحرب 1948 و 1967و اجتياح بيروت في 1982  وغيرها  من المواقف.
والشاعر ما زال يمني النفس بقدرة فلسطين على أن تكون الشرارة التي تشعل ثورة حقيقة تطيح بالاحتلال وأعوانه. فكل الأحداث المأساوية التي عاشها ويعيشها الفلسطيني لم تمنعه من التمسك بأرضه، ولم تحول في خفوت عشقه الذي يزداد اضطراما لأرض فلسطين الطاهرة ورائحة برتقالها.
فاسمها يسكن في قلبه ولا يمكن لأحد أن يزحزحها من وعيه ومخيلته. يقول الشاعر في قصيدة "باليستينا":
"كأحرف تقال لأول مرة
اسمك يتكون في فمي
حارا
بكل حلاوته المرة" (ص47)
وإن العالم دون فلسطين سيكون مشوها وظالما، ولن ينعم بالأمن والسلام، فدون فلسطين ستكون خارطة العالم ناقصة وشاذة.
ويبقى الإيمان بالثورة التي ستعيد الإنسان التائه إلى الدرب الصحيح، وترجع الحق لأهله الأصلانيين، فيضيف:
"سيأت اسمك
كنبع من الصخر
دافقا
وبريئا
يا فلسطين" (ص48)
وفي النهاية، فأن الشعر القريب من القلب والمليء بالمشاعر الصادقة قادر على أن يخرجنا من واقع الحياة اليومي إلى حياة أرحب وأكثر جمالا.