بقلم: أمير داود
أطفالي لا يتقنون قراءة الساعة، وخصوصاً الكبير فيهم، أرسله دائماً: روح شوف قديش الساعة! يعود ويقول: الساعة ثمانية ونص. تكاد تكون كل الأوقات الممكنة عنده ثمانية ونص. أقول بيني وبين نفسي: أساساً الله خلق الكون كله عند الساعة "ثمانية ونص" ذات يوم بعيد، مظلم وموحش. لم لا؟ مرة، سأل الأستاذ التلاميذ في حصة الدين سؤالاً نسيته، لم يعرف أي من التلاميذ الاجابة. قال الاستاذ بعد يأس: أمير "وقّف وورجيهم". وقفت وقلت بلا تفكير، كمن يهرب من التردد الى الحفرة: عمر بن الخطاب! صاح الاستاذ: تصفيق.
صفق الطلاب لي كثيراً. كانت الاجابة مرتجلة وسريعة ثم صائبة. حفظت الاجابة هذه لوقت طويل، لكني نسيت السؤال الآن. ولم أكشف هذا السر لأحد حتى هذه اللحظة. عندما كنت صغيراً أيضاً، اشترى لي أبي ساعة، ساعة رقمية بلا عقارب، لم أكن قد تعلمت قراءة الوقت بالعقارب، وصرت أنظر الى الشاشة، مرة أقرأها من اليمين ومرة من اليسار، فتخربش الوقت كله عندي، خلت أيامها أن كل وقت الكون قد تخربش بفعل ساعتي السحرية تلك. اليوم، كل المشكلة عندي مع الوقت. مع الزمن.
قرأت قبل أيام عبارة نسيت الاحتفاظ باسم صاحبها، وهو فيلسوف حداثي على أغلب الظن، يقول: "إن مشكلة أنسان اليوم، هو باعتقاده الدائم أن الوقت يهرب منه".
لا أحب الغموض، لكني أحب "الكثافة" أكثر. لا أذكر أنني رفعت شعاراً كبيراً في حياتي. لا أذكر أنني تمددت بكامل جسمي احتماءً بشعار من تلك الشعارات التي يحملها الثوار والمثقفون ورجال السلطة والصارخون في المقاهي. حتى الشعارت التي تعثرت بها قديماً، كانت صغيرة جداً وهشة، تذوب سريعاً مع أول هطول خجول للأمطار في بلادنا. كان أكبرها أنني لا أحب الكوسا المحشية، وعند أول مطب حقيقي بجوع شديد أيام الجامعة، التهمت طبقاً كاملاً منه، فأعلنت انهيار أول الشعارات العظيمة التي أعلنتها في حياتي، وآخرها.
لذلك غالباً ما أشعر بالبرد. أنا دائم الشعور بالبرد أمام حرارة الشعارات التي تهرب مني وأهرب منها ووهجها. نهرب دائماً في أزقة البلاد المسيجة بما ينبت إلى جانب الشعار ولا يرتوي من رذاذه؛ لا أنا أريد أن أحمل شعاراً يجعلني أسير في الطريق ذاته كل صباح، ولا الشعار يريد حاملاً مزيفاً وضعيفاً مثلي ينهار عند أول علاقة مرتبكة مع أي شيء, تجرده في نهاية الأمر من ملابسه كلها.
"هي حاجة أخرى لاختصار المسافة بين
شمس نيسان وصبر أيوب المضاء
بزهر الياسمين
لكي تجيء ساعات يكون الليل فيها أقصر
من حضور الثريات المضيئة على قبور الخائفين
" وكلي احتياج
لكلام الفجر منتهى الخطو
والليالي مرايا حزينة"
أنا صديق نقطة الصفر، عدّاء حلبة السباق الدائرية، أركض وأركض وأركض، فأجد نفسي في نهاية المطاف، في احتضان طويل وحميمي مع نقطة الصفر هذه.
الوقت سريع جداً هذه الأيام. حاد ويجرح، بل ويقطع. هذا زمان الفرص الضائعة، العمر الذي يركض بلا توقف، وهو حديث ذا شجون لمشاعر النوستالوجيا أو حنيننا غير المبرر لأوقات انقضت بالأسود والأبيض. عندي حنين من هذا النوع، انا أساساً أُسير هذا الحنين وهذه المشاعر، تفقد الحياة بهجتها كلها عندي بمقابل هذه الذكريات، ذكريات كنت أرتجل الاجابة فيها وأحصل على تصفيق كبير لا ينتهي، بمقابل زمان حالي، أجتهد فيه للحصول على أي شيء، ليستحيل في نهاية الأمر الى فرصة ناقصة في الوقت بدل الضائع.
الوقت، عقرب اليكتروني، يلدغ !