قال الفيلسوف الصيني العظيم كونفوشيوس، قبل 2500 عام، "إن الإنسان الذي يتعلم ولا يفكر، ما هو إلا شخص ضائع، أما الذي يفكر ولا يتعلم فسيبقى في خطر داهم".
هكذا هم الصينيون اليوم… تعلموا ثم فكروا، ثم ظلوا، يفكرون ويتعلمون!
ففي شهر ديسمبر/ كانون أول من العام 1978، أي بعد عامين فقط من وفاة زعيم أكبر دولة شيوعية في العالم، "ماوتسي تونج"، صرح أحد الزعماء الصينيين "الأوصياء" على الحزب والدولة، قائلا:-
- تحتاج الصين، إلى نصف قرن فقط! لاستكمال عملية التحديث والسيطرة السياسية والاقتصادية على العالم كله!
ثم أضاف الرجل أقواله الشهيرة التي صارت عنوانا للسياسة الصينية لأكثر من 35 عاما:-
- على الصين أن تختفي من المشهد قليلا، وتطفئ أضواء سياساتها الخارجية، إلى أن تزداد قوة ومنعة وتقدما.
- "لا يهمني لون القط، إن كان أسود أو أبيض اللون، طالما أنه يصطاد الفئران".
إنه الزعيم الذي أوصى بأن تُنتزع عيناه بعد وفاته، وتسلما لطلبة كلية الطب، وأن يُحرق جسده، ثم ينثر رماده فوق مياه البحر، وأن لا يقام له أي نصب تذكاري أو تمثال أو ضريح. وهو الذي ارتضى لنفسه، أن يعيش ما تبقى له من آخر أيام حياته في بيت عند أطراف العاصمة بكين، أشبه بمخزن حكومي قديم. إنه "دينج تشاو بينج"، الذي لم يأبه أحد في العالم كله آنذاك، بتصريحاته أو بتنبؤاته، أو كما قيل "بتهيؤاته". فقد كانت الصين، حتى نهاية سبعينات القرن الماضي، دولة زراعية، فقيرة، ومنعزلة، بعيدة عن التطور العلمي والتكنولوجي، كبعد الثرى عن الثريا. كما أن الصين كانت قد شهدت قبل أقل من عقدين من الزمان، مجاعة ذهب ضحيتها 30 مليون صيني، ويقال 50 مليونا.
ومع أن 8 سنوات (من هذا اليوم) هي التي بقيت على تصديق، أو تكذيب ذاك التنبؤ، إلا أن العالم كله، يشهد الآن، بأن الصين وصلت إلى المرحلة الأخيرة من تثبيت قبضتها السياسية والاقتصادية على العالم كله. فبدءا من "شاشة" جوالك، وكمبيوترك، أو أجهزة مكتبك أو محلك أو مصنعك، أو حتى سيارتك، سواء كتب عليها، "صُنِعَ في أميركا"، أو "صنع في أوروبا"، فقد صنعت أجزاؤها، أو جمعت قطعها في الصين.
ويبقى السؤال الأهم هو، كيف استطاعت هذه الدولة المنعزلة والفقيرة، تحويل تلك التنبؤات إلى حقيقة في أقل من 50 عاما؟
اعترف "دينج تشاو بينج" أولا، بسوء النتائج التي توصل إليها اقتصاد الحزب الشيوعي الموجه والمركزي، معلنا السماح بإنشاء شركات القطاع الخاص. ثم قام الرجل بفتح أبواب التجارة والصناعة أمام الاستثمار الخارجي. وأصبح في مقدور ملايين الفلاحين (80% من السكان)، شراء قطع صغيرة من الأراضي، وبيع منتجاتهم إلى السوق مباشرة ضمن رقابة الدولة وليس ضمن قبضتها. وسرعان ما تغيرت الصورة في الريف والقرى. ولم تعد هناك مجاعة ولا حتى شح في مواد الطعام، بل صار البعض يملك من المال ما يكفي لبناء بيت، مزود بأحدث الأجهزة الكهربائية. وسرعان ما بدأت شركات ومؤسسات القطاع الخاص، تتفوق في إنتاجها على الشركات الحكومية ومن الجدير ذكره، أن ممثلي "القطاع الخاص"، استمروا باستثمار أموالهم وأرباحهم داخل بلدهم، مما ضاعف الإنتاج، لتزداد بعده فرص العمل.
ومع ذلك لم تتسرع الحكومة الصينية بخصخصة الشركات الحكومية بين ليلة وضحاها، كما حدث في الاتحاد السوفيتي عام 1990، الأمر الذي تسبب في تسارع انهيار الحزب الشيوعي السوفيتي ودولته، الذين قاموا بتطبيق خطة "خصخصة جميع مصانع ومؤسسات الدولة" خلال "500 يوم"! تلك الخطة التي أشرف على تطبيقها (وبكل أمانة) خبراء الاقتصاد الأميركان.
وبعد أقل من شهرين من اختفاء وتفكك الاتحاد السوفيتي وتحديدا في شهر شباط 1992، بدأت أصوات المعارضين والمتشددين داخل الحزب الشيوعي الصيني الحاكم، تتعالى وسط تأييد شعبي عارم لسياسة "دينج تشاو بينج"، الإصلاحية والاقتصادية. وارتأى الرجل، أن يقوم باصطحاب المسؤولين والحزبيين المعارضين له، في جولة إلى المدن والقرى التي أحسنت تطبيق سياساته الاقتصادية. وعندما رأى قادة الحزب، بأم أعينهم تطور وازدهار القرى التي كانت في الأمس على حافة الفقر، قرر المناوئون والمعارضون، إعلان تأييدهم الكامل لاستمرار تطبيق سياسات "دينج"، الاقتصادية والسياسية، في كل قطاعات ومرافق الدولة، لتنطلق الصين بعدها إلى الأمام بكل طاقاتها وعقولها، فكانت النتيجة هي، تفجر الطاقات البشرية وتحقيق اقتصاد ومستقبل أفضل للشعب وللحزب أيضا. وتم إنقاذ مئات الملايين من العائلات من براثن الفقر وها هي الصين اليوم، قد انتقلت منذ سنوات قليلة، من مرحلة (الإنتاج للتصدير)، إلى مرحلة (الإنتاج للاستهلاك المحلي). وأصبحت الصين في العام 2018، صاحبة أكبر قوة شرائية في العالم، بعد أن أشارت آخر الإحصائيات ، إلى أن أقل من 1% فقط من سكان الصين يعيشون في ظل الفقر.
وهكذا استطاع الحزب الشيوعي الحاكم، إقناع المواطن الصيني العادي، أن بإمكانه الاطمئنان إلى مستقبله ومستقبل أولاده تحت قيادته، معلنا (منذ سنوات قليلة)، أنه يصبو بأن يصل دخل الفرد الصيني في العام 2020، إلى مستوى دخل الفرد في الدول الأوروبية المتقدمة، وأنه يعمل لتحقيق الحلم الصيني الكبير، بأن يجعل الاقتصاد الصيني في العام 2050، هو الاقتصاد الأكبر في العالم دون أن ينازعه أي أحد، لمائة عام... أو أكثر.
وعند سؤال "دينج تشاو بينج"، قبل وفاته بسنوات قليلة، وبعد أن أصيب بالصم:-
- كيف استطعت تحقيق ذلك؟
أجاب الرجل:-
- لقد استعنت بالرجال الوطنيين، المخلصين، الأذكياء، غير الفاسدين!
ومع بداية شهر "رمضان" الفضيل، فإن أولى دعواتي، ودعواتك، لله تعالى هي:-
- اللهم ارزق هذا البلد الأمين بالرجال الوطنيين، المخلصين، الأذكياء وغير الفاسدين! يا رب العالمين!
قولوا: ... آآآآآآآآآآمين!.