"الأرقام لا تكذب، ولكن الكذابون يكتبون أرقامًا" تنسب هذه الحكمة أو المقولة لمارك توين (روائي وفنان وفكاهي أمريكي 1835-1910).
إن الأرقام لغة، واللغة نظام رموز، وتأويل الرموز يخضع للتحايل والمناورة. إن الكذب من خلال الأرقام هو لغة تحايل وتواطؤ على الواقع وتزييفه؛ ليست الإشكالية في الأرقام، إنما الإشكالية فيمن يكتب الأرقام ويُأدلجها ويسيسها، ويقوم بتطويع الأرقام لخدمة مؤسسة ما أو مشروع التمويل الأجنبي أو لحشد إعلامي وسياسي مع أو ضد قضية معينة. تعاني الاستطلاعات الفلسطينية ونتائجها من تخمة أيدولوجية وسمنة مفرطة، وتعاني من فقر بنيوي في المنهجية العلمية. وإذا كانت استطلاعات الرأي العام تهدف إلى ترشيد السياسات العامة وإصلاحها أو إشراك المواطنين والجمهور في صنع السياسات العامة؛ فإن الاستطلاعات الهشة والضعيفة ترتكب جريمة مزدوجة الأولى ادعاء تمثيل الرأي العام والمزاج الشعبي وهي غير ممثلة لذلك؛ والثانية تضليل صانع القرار وإيقاعه في فخ معرفي-سياسي قد يؤدي إلى اتخاذ قرار خاطئ، وربما العمل على صناعة خيارات وتصورات غير علمية ووضعها تحت عدسة صنع القرار.
يمكن الادعاء أن فكرة استطلاعات الرأي هي فكرة قديمة، استعملها الإنسان بأساليب بدائية، لاستكشاف الحظ والمصير والرزق وغيرها من الأمور. لكن البداية العلمية أو العملية لاستطلاعات الرأي كانت عام 1774 في الولايات المتحدة الأمريكية من قبل مؤسستي أراز للاستطلاعات، ومؤسسة بن فرانكلين لقياس الرأي العام في المستعمرات الأمريكية، وفي عام 1935 بدأت مرحلة جديدة من استطلاعات الرأي العام مع إنشاء معهد جالوب وتطبيقه الأسلوب العلمي عند قياس الرأي العام من خلال العينات الإحصائية العلمية (يمكن القول إن تطور الاستطلاعات والاستمارات كانت بموازاة تطور علم الاجتماع الأمريكي الذي يركز على المنهجيات الكمية الرقمية). وتوالت بعدها المحاولات من قبل المؤسسات الإعلامية والتجارية لقياس الرأي العام، ومع التطور التكنولوجي ودخول العصر الرقمي والعصر ما بعد الرقمي، أخذت استطلاعات الرأي عدد من الأشكال والأساليب والأدوات والمنهجيات؛ منها من طور من قدراته وأدواته المعرفية، ومنها من ارتهن للثقافة الاستطلاعات المستهلكة والزائفة.
تتكاثر في الآونة الأخير العديد من استطلاعات الرأي العام في فلسطين، التي تحاول قياس توجهات الرأي العام الفلسطيني حول قضية معينة أو مجموعة من القضايا؛ لكن غالبية استطلاعات الرأي التي تقوم بها مؤسسات فلسطينية وغير فلسطينية في فلسطين، تعكس في غالبيتها تشوه البنية المعرفية للهياكل الناظمة لاستطلاعات، كما تعبر عن انحطاط أو انحدار في المنهجية العلمية والمبنى الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي الذي أنتج الاستبيان واسئلته وفقراته ومحاوره ومقياسه؛ وهذا التشوه والانحدار هو نتاج أزمة معرفية ونفسية وأخلاقية لدى مروجي استطلاعات رأي (الوجبة السريعة) التي تهدف إلى أخذ سبق صحفي، أو تسجيل نجاحات كفقاعة سريعة الزوال، أو ادعاء امتلاك المعلومات والمعرفة؛ كون المعرفة سلطة بمنطق عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، وفي محاضرة عامة قدمها أحمد جميل عزم بتاريخ 19 نيسان/ إبريل 2020 عبر الفيسبوك، بين فيها عزم أن إشكالية المعرفة اليوم ليست ندرة المعلومات وإنما كثرة المعلومات، وبمنطق عزم أننا اليوم لسنا بحاجة إلى كثرة المعلومات في العصر الرقمي، وإنما نحتاج إلى نوعية مميزة من المعلومات ومن مصادر ومؤسسات موثوقة وجادة (أي لا حاجة للاستطلاعات الزائفة والمخادعة). ومن خلال المتابعة الجادة لعدد من الاستطلاعات خلال الأشهر القليلة الماضية، تبين أن غالبية الاستطلاعات التي تم معاينتها لغرض هذا المقال؛ هي اجترار لمعلومات واسئلة وأفكار باهتة ومزيفة لا تعكس الحقيقة والواقع، وإنما تتحايل على الواقع وتدعي حق امتلاك قراءته ومعرفته باسم (استطلاع النخبة أو الرأي العام أو استطلاع المواطن...الخ من التسميات الجوفاء).
إن الإشكاليات المعرفية البنيوية التي تعتري بعض استطلاعات الرأي الفلسطيني كثيرة؛ لكن يمكن الحديث عن جزء منها وهي إشكالات: وطنية؛ سياسية؛ اجتماعية؛ إحصائية وغيرها. بخصوص الإشكال الوطني؛ جزء كبير من الاستطلاعات محكوم بسقف سياسي يرى أن فلسطين هي الضفة الغربية وقطاع غزة، وبعضها يهمل قطاع غزة، والواقع أن المجتمع الفلسطيني حقيقة هو مجتمع فلسطين التاريخية وتجمعات الشتات، وقد نجحت مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومركز دراسات التنمية في جامعة بيرزيت في استطلاعاتها ودراستها تجاوز هذه الثغرة، أما مؤسسات بحثية ومسحية أخرى ما زالت تقع في هذا الفخ الوطني-السياسي- المعرفي.
أما الإشكال السياسي أن جزء كبير من تلك الاستطلاعات تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني، ومراكز بحث خاصة (مقاول أبحاث)، وتكون جزء من استطلاع الرأي هي ضمن برامج ممولة من جهات مانحة خارجية، فتراعي الاستطلاعات شروط الممول أو وصفة التنمية الدولية وموضوعاتها، ولا تراعي خصوصية المجتمع الفلسطيني وتنوعه وطبقاته واهتماماته وانسجام المقاييس معه. وغالبية الباحثين الجادين يعلمون أن جزء كبير من التقارير الدولية والإعلامية تبنى على نتائج تلك الاستطلاعات غير الدقيقة، التي تستغل من قبل المؤسسات العالمية الكبرى ووسائل إعلامه في الابتزاز السياسي والاقتصادي للفلسطينيين ومؤسساتهم. كما أن جزء كبير من الاستطلاعات تكون سياسية بامتياز ومتحيزة وغير علمية ولأغراض سياسية وليست سياساتية، ومن الأخطاء الفادحة لاستطلاعات الرأي الفلسطيني الفشل في التنبؤ بنتائج انتخابات المجلس التشريعي عام 2006.
أما الإشكال الاجتماعي؛ غالبية استطلاع الرأي تدعي أنها تعكس واقع المجتمع الفلسطيني وتعبر عنه من خلال الأرقام والنسب المئوية والرسوم البيانية، مع العلم أن غالبية الاستطلاعات تهمل متغير مضارب البدو في الاستمارة، وتجري غالبية الاستطلاعات في المدن الرئيسية وتهمل مدن وقرى أخرى، وجزء كبير يتم عبر وسائل التواصل الاجتماعي والهاتف ونسب لا بأس بها من الأسر الفلسطينية لا تمتلك خدمة الهاتف أو الانترنت؛ أي أن هناك قطاع واسع من المجتمع غير ممثل في مجتمع البحث. وتنشر تلك الاستطلاعات على صفحات المؤسسة أو الباحثين فيها ويطلب من الجمهور على وسائل التواصل الاجتماعي الإجابة على الاستطلاع، مع العلم أن نوعية الجمهور لدى مروج الاستطلاع على صفحاته الشخصية لا يعكس التنوع الاجتماعي (كون الصداقات في الفضاء الافتراضي هي امتدادات للصدقات في العالم الواقعي، وهنا تكون نتائج الاستبيان متشابهة ولا توجد فروق إحصائية بلغة الإحصاء)، أي أن جزء كبير من الاستطلاعات لا تمثل المجتمع الفلسطيني أو قطاعاته المتنوعة.
أما الإشكال الإحصائي وهو الأخطر والأكثر فداحةً في تلك الاستطلاعات، تصاغ الفقرات بلغة انطباعية، وغير محايدة، وأحيانًا غير مفهومة وملتبسة. جزء كبير من الاستطلاعات عند التدقيق فيه يتبين أنه يعاني من خلل في صدق المحكمين، ولم تجرِ له عينات تجريبية، ويظهر ذلك من التباس الفقرات أو تكرارها أو إشكالية المقياس المصمم لها. إشكالية العينة سواء من ناحية الحجم غير ممثلة لمجتمع البحث، ومن ناحية نوع العينة التي تعتمد على عينة الصدفة (في الفضاء الواقعي أو الافتراضي) وتهمل الاستطلاعات العينة العشوائية المنتظمة والعينة العنقودية أو جداول كيش؛ وهذه هي العينات التي تعطي مؤشرات أقرب إلى الحقيقة والواقع. وإشكالية السؤال عن قضيتين في نفس الفقرة أو السؤال، أو كتابة بعض الفقرات باتجاه إيجابي وفقرات أخرى باتجاه سلبي دون الانتباه لقلب سلم الإجابات. وغالبية الاستطلاعات تنشر نتائجها دون نشر الصدق الإحصائي Statistical honesty والثبات (معادلة كرونباخ ألفا) والانحراف المعياري standard deviation وهذه المؤشرات الإحصائية مهمة للباحث المتخصص الذي يعلم مدى مصداقية الاستطلاع وتمثيله الواقعي لمجتمع البحث، وانعكاس لقوة الاستطلاع الإحصائية أو ضعفه أو تشتته أو اتساقه الداخلي. وغيرها من الأخطاء الإحصائية التي تقلل من قيمة ومصداقية الاستطلاعات.
أخيرا وليس أخرًا؛ تعاني بعض استطلاعات الرأي العام الفلسطيني من هشاشة بنيوية، وبؤس معرفي، وفقر التحليل، وتهافت في المحتوى... وإشكاليتها أنها تركز على النموذج المكبر Macro-models للظواهر، بدل التركيز عن النموذج المصغر Micro-model؛ وإن الاتكالية الزائدة في الاعتماد على الشبكة العنكبوتية في ترويج استطلاعات الرأي يخلخل القيود العلمية لاختيار العينات الممثلة لمجتمع البحث... خلاصة القول إن لم تكن استطلاعات الرأي من خلال جهد ميداني وعلمي، وبالاعتماد على النموذج المصغر للظواهر البحثية، والاعتماد على عينات علمية كالعينة العشوائية المنتظمة أو العينة العشوائية أو جداول كيش؛ فإنها استطلاعات تكون جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع؛ وهي إهدار للطاقات والموارد، وهي ذر للرماد في العيون.