الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

قنينة نبيذ الورد بالزمن الكوروني/ بقلم: محمد عيد

2020-04-25 03:09:18 PM
قنينة نبيذ الورد بالزمن الكوروني/ بقلم: محمد عيد
محمد عيد

 

كان يرتدي معطفا عتيقا داكن اللون مدليا تحت ركبتيه يغطي بنطال الجينز الممزق، طاقية من الصوف القديم تدفئ رأسه وشعره الكثيف الذي ينساب لأسفل كتفه، حذاؤه متآكل من الأمام… الجوع كان قد ارتسم على وجهه!!

بيده قنينة نبيذ كان قد فرغها من محتواها - وفقا لما سرده- ليعيد استخدامها كوعاء زجاجي أسطواني الشكل فيودع وروده الجورية التي كان قد ابتاعها صباح هذا اليوم من متجر الورد بها.

 في كل صباح، يقوم باختيار مجموعة محدودة من الورود ويحرص أن تكون أوراقها وسيقانها شديدة الاخضرار ليضمن استمرارية عملية التمثيل الكلوروفيلي في سبيل التحوط من مخاطر ذبلانها السريع.

أراه يوميا، بيده مقص يرمم به وروده التي لم يتمكن من بيعها لعشاق معطفه وثيابه الرثة، يدخن كثيرا، قامته طويلة مع انحناء في أعلى فقرات ظهره، ربما كان جسده قد تكيف مع معطفه الداكن...

كان مساء ذاك اليوم بمعية فتاة صغيرة، منهمكا ووروده مبعثره، تارة يخرج وروده من قنينة النبيذ، وتارة أخرى يدخلها ذاتها!!

 توقفت مسترقا النظر إليهما من خلف باب زجاجي لأحد المقاهي، متظاهرا بأنني أطالع كتابا ما، رأيتها تناوله بضعة شواقل ربما، بعد أن اختار لها ثلاث وردات شديدة البياض وانتهت الصفقة.

ناداها بهمس وابتسامة وادعة خجولة: هذه الوردة البيضاء هدية مني لك فأنت من زبائني الدائمين.

تقدم نحو الباب الزجاجي ليدخل المكان المخصص للمدخنين، واختار كرسيا كان قد تموضع مقابل قنينة نبيذ الورد، اقتربت منه بفضول استحوذ على تفكيري للتعرف عليه، فقلت:

ممكن أجلس معك، قال بارتياب: بالطبع أهلا وسهلا!

قلت - متظاهرا بإعجابي الشديد بمهنته - شغلتك كتير مميزة !

قال: أكيد، أحبها جدا فهي تتويج لرحلة طويلة من سلسلة أعمال (بزنس) كنت قد هجرتها منذ خمس سنوات تقريبا.

قلت: - معتقدا بأن به شئ من المسّ أو العته - شو كنت تشتغل حضرتك!

قال: بعد ما أنهيت الجامعة بمعدل ٩٥ ٪( حقوق) كنت قد التحقت بالعديد من البرامج التدريبية، أنشأت حينها شركة خدمات استشارية، كادت أن تتبوأ المركز القيادي بنشاطها إلا أن ظروفا ما قلبت الأمور رأسا على عقب، ثم توقف عن الحديث ثم استأنفه قائلا: تركت كل شي وقررت أن أبيع الورد، ثم أكمل: أنا مش شحاد ولا متسول، أنا قررت أن أكفر عن حياة الأعمال وقذارتها وزيفها بهذه الورود التي تضمن لي قوت يومي والحزن على يافا، إلى أن أموت !

قال لي: سلم على يافا ثم غادر وملامحه تفيض ثقة وطمأنينة بأن يافا ستعود كما نحن ( وفقا لتعبيره ) !