الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

معركة كورونا: كم يلزمنا من الشجاعة!/ بقلم: سعيد بوخليط

2020-04-26 09:12:03 PM
معركة كورونا: كم يلزمنا من الشجاعة!/ بقلم: سعيد بوخليط
سعيد بوخليط

                                          

''لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم'' (توفيق الحكيم)

''مراقبة الألم من وراء زجاج شيء مضحك… كالأطرش الذي يسمع موسيقى' '(محمد الماغوط). 

أقصد بداية، شجاعة مواجهة الذات لذاتها، قبل كل شيء؛ ومدى قدرات السعي نحو اختبار أعماقها، كي تبرز إلى السطح الموضوعي، مستويات الإنسانية التي تضمرها. الوضع الراهن للبشرية، أسقط كل الأقنعة الزائفة؛ وتتعالى تراجيدية ما يحدث، بعيدا جدا عن ضآلة قبضة مختلف النزوعات والتبريرات والديماغوجيات ذات الأبعاد التضليلية الضيقة؛ سواء اكتست لبوسا دعائيا كيفما جاء جنسه: سياسيا، أيديولوجيا، قوميا، إثنيا، علمويا، ثيولوجيا…، يحكمها فقط هاجس الانتصار لهذه الجهة أو تلك، لمجرد أرباح صغيرة، عابرة، تبعا لرهانات ضيقة في الزمان والمكان، تريد الإبقاء على الطاحونة الدونكيشوتية التي تكرس عبثية معارك صغيرة، ربما انتهت قبل أن تبدأ، فلا تترك بالتالي أي أثر يذكر.

في حين، معركة كورونا كبيرة؛ آنيا ومستقبلا، موصولة تماما بسيرورة الارتياب واللاتوقع، تنتمي إلى صنف المعارك البطولية المصيرية؛ محورها أولا وأخيرا، ماهية الإنسان، في علاقته بالوجود والآخر ثم الكون والواقع، بكل ما تضمره تلك المفاهيم من دلالات عميقة. لذلك قلت، هي معركة ربما انطلقت كي لا تنتهي، سوى إن جرى التصدي لمختلف مواطن اندلاعها، أو ربما أيضا، لم تبدأ فعليا بعد، وما نتابع أطواره حاليا؛ مجرد شرارات أولى لمعركة طويلة الأمد، تقتضي نَفَسا نضاليا أطول.

لذلك كم تلزمنا من الشجاعة والنقاء البشري، وهزم مبدئي لأمراض نفوسنا؟ حتى نخوض تفاصيل المعركة بروح لا تكلّ وجسد لا يتعب وقلب لا يتوقف عن ضخ روح التفاؤل، وفق وجهة انتصار لا محيد عنها، تتمثل في استعادة الإنسان لهويته الجدير بها؛ المتشظية سلفا تحت أقدام انكسارات وهزائم يوميات الليبرالية المتوحشة، التي عشناها أيضا برعب صامت، يسري سريان السم، وليس صادحا كما اليوم، ثم في نهاية المطاف تصالح الفرد مع نفسه والعالم.

إذن، يمثل الصراع مع كورونا، مجازا عن معركة الإنسان الذاتية. كورونا مجرد مرآة  موضوعية تهشمت على واجهتها حمولة ذخيرة الأعماق البشرية. بالتالي، فمعاني الانتصار والهزيمة، قياسا طبعا لبقاء الفيروس فيزيائيا أو اختفائه، يكمن في استيعاب كل فرد نظريا لأبعاد هذا الدرس بمختلف تطبيقاته وممكناته، ثم تمثله لحاضر ومستقبل التجربة. 

قد تختلف تدابير النظم السياسية، حسب مستويات تحضرها وتجذر الوعي الديمقراطي ثم تكرس عمل المؤسسات المدنية داخل بلدانها، هكذا يتقلص أو يتمدد الحجم المادي المباشر لوقع الوباء. أيضا، قد يجمع الإجماع على أن الطليعة موكولة بهذه المناسبة للعقل الطبي. غير أنه بين السياسة الحربائية والطب المتسامي، تظل الحلقة المفصلية الرابطة، لمختلف ذلك؛ إشكالية أن الإنسان مهدد في استمرار كيانه وتلمس أثره على وجه البسيطة. ويجب أن يقاوم. لكن ما العمل؟ وما مستويات امتداد المعركة؟ وكيف السبيل؟.

أجوبة يتحدد مداها؛ حسب درجات الشجاعة التي يتحلى بها كل واحد: صحوة الضمير؛ نفاذ البصيرة؛  ليونة القلب؛ رهافة الحس؛ شفافية المشاعر. في إطار أفق التوقف عن الاحتفاء بغنائم انتصارات صغيرة تعكس أساسا جلّ عاهات الجبن والنذالة، أكثر مما تنطوي حسب اعتقاد مصارع طواحين الهواء الوهمية، على ممكنات الظفر والتمكن.

تحضرني في هذا الإطار، على نحو سريع جدا، الحكاية التالية: 

"التقطت هذه الصورة سنة 1994، في السودان، وحصلت على جائزة بولتزر، بحيث يزحف هذا الطفل الذي ضربته المجاعة وأنهكت جسده النحيف، باتجاه مخيم للأغذية يبعد عنه بكيلومتر. والنسر الذي لا يأكل إلا الجيف يقف على مقربة منه ينتظر موته حتى يأكله. صورة هزت العالم ولا يعرف أحد ما حدث للطفل بعد ذلك… بعد مرور ثلاثة أشهر، وُجِد المصور كيفن كارثر –صاحب الصورة- منتحرا ربما متأثرا بهذا المنظر وما يحمله من كآبة وإحباط''.  

لقد امتعض كارثر من الاحتفال بتتويج مأساوي، غير مشروع؛ ينعم ضمنيا ببؤس طفل، مفضلا في المقابل أن يتقاسم معه آلام احتضاره جوعا، لأن الجوع جريمة بشرية بكل المقاييس؛ مع سبق الإصرار والترصد، أسس منظومتها جشع الأقوياء.

أحس الصحفي الشاب (33 سنة) المنحدر من جنوب أفريقيا، بوخز رهيب  لضميره، فتمزقت نفسيته أشلاء؛ بين اعتراف مهني عالمي ناجم عن فوز صورته، وما يترتب عن استحقاقه ذاك من مجد وشهرة وثراء، وهي بصدد تعقبها ''الاستيطيقي'' لتألم طفل يتضور جوعا، أو إنهاء مشاهد المسرحية. حتما، كم اقتضى الاختيار من الشجاعة والتجرد والإنصات فقط لصوت نقاء الضمير الإنساني!.  

أمام التراجيديات الإنسانية، وحدها حياة الضمير، تمد الحياة بشجاعة البقاء.