الحدث ـ محمد بدر
تؤثر الدراما على الطريقة والمنهجية التي ينظر بها الناس إلى العالم والقضايا المختلفة، هذا الافتراض ورغم أنه قديم وتقليدي، إلا أنه ما زال صالحا حتى يومنا هذا، خاصة في العالم العربي، الذي تعدّ مجتمعاته "السلبية" من أكثر الشعوب المستهلكة للثقافة لأسباب سياسية واجتماعية مختلفة، من أهمها التحكم الشديد في طبيعة المعلومات ومصادرها، رغم ما يسمى بالعولمة.
في العالم العربي، لا يمكنك تحليل المشهد الدرامي بعيدا عن المشهد السياسي، لأن المعيار السياسي هو الضابط الأهم لعملية إنتاج المشهد أو على الأقل المحدد الرئيسي لذلك، وفي حالات النقد النادرة جدا للنظام السياسي، فإن المعيار السياسي هو وحدة التحليل أو التأويل الأساسية، وعليه فإن عملية تفكيك الصورة والمفردات المكونة للمشهد، لا يجب أن تكون بعيدة عن رؤية النظام. هذا تحصيل حاصل في عالمنا العربي، لا يحتاج نظريات معقدة في التحليل، ولا حتى عملية بحث عن علاقة بين رموز ومعانٍ، لأن المشهد الدرامي العربي يجب أن يبقى من وجهة النظام السياسي سطحيا واضحا لا يقبل التأويل.
هذه المقدمة كانت ضرورية لقراءة دقيقتين من حلقة مسلسل سعودي تبثه قناة سعودية ممولة من الأسرة الحاكمة، يتجادل فيه ممثلان سعوديان حول النظرة إلى "إسرائيل" والقضية الفلسطينية، فيطرح أحدهما مقاربة تبدو جديدة في النظرة لـ"إسرائيل" تضعها في خانة الأصدقاء للعرب والسعوديين، فيما يدافع الآخر عن القضية الفلسطينية وعن الموقف المفترض التقليدي من القضية.
هاتان الدقيقتان ليستا غريبتين على الموقف السعودي الرسمي من القضية الفلسطينية، المملكة وصفت حركات المقاومة الفلسطينية والعربية بالإرهابية، واعتقلت الفلسطينيين واللبنانيين لمجرد دعمهم للمقاومة، وما زالت المحاكمات جارية، وكانت أيضا من أهم داعمي صفقة القرن، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال مشاركة دول عربية كالبحرين والإمارات في احتفالية الإعلان عن الصفقة، ومن المعروف أن هاتين الجولتين تسيران في فلك السياسة الخارجية السعودية، وتأتمران بأمر المسؤولين في المملكة. لكن ليس هذا المهم ولا الأخطر.
الأخطر في القضية ككل، أن النظام السعودي يمارس منذ عدة سنوات دورا ثقافيا خطيرا في ما يتعلق بالنظرة إلى "إسرائيل" من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك عبر الذباب الإلكتروني التابع للنظام، وأخيرا من خلال الدراما والمسلسلات، التي من المفترض أن تكون متابعة في رمضان أكثر من أي وقت آخر، أي أن التوقيت أيضا غير بريء.
وعلى عكس الأنظمة العربية، التي وقعت اتفاقيات "سلام" مع "إسرائيل" دون تمييع الثقافة الشعبية المعادية لـ"إسرائيل"، يسعى النظام السعودي إلى تمييع الثقافة أولا، وهذه الوسيلة أو الطريقة، ليست من وحي محمد بن سلمان ومن حوله، وإنما من وحي الدراسات والاستنتاجات الإسرائيلية، التي تشير بوضوح إلى أن فشل "التطبيع" مع شعوب الأنظمة، التي تربطها علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل"، يدفع "السلام" باتجاه البرود، ويأخذ الأنظمة أحيانا للتصعيد النسبي تحت ضغط الرأي العام، ومن أهم الأمثلة على ذلك الحالة الأردنية، واستنادا إلى ذلك يقترح الخبراء الإسرائيليون البدء بتطبيع الثقافة العامة قبل توقيع البروتوكولات الرسمية.
إن الجهد الكبير، الذي يقوم به النظام السعودي، لخلق معان جديدة لـ"إسرائيل" في الحيز العام السعودي والعربي، يندرج في سياق الجهد الإسرائيلي في ما يعرف بدبلوماسية الرأي العام، التي اقتنع الإسرائيليون أنها مهمة إلى جانب دبلوماسية النخب، ولأن الدراما السعودية ليس فيها نجوم كبار كما غيرها من الدراما في العالم العربي، فإن التجربة فيها ومن خلالها لن تكون ناجحة، لذلك فإن النظام سوف يحاول الاستفادة في المراحل التالية من مشروعه من النجوم السعوديين التقليديين، وهم الدعاة ورجال الدين، الذين كانوا وما زالوا رأس مال النظام السعودي على الشاشة.
قد يكون عذر النظام السعودي في موقفه تجاه القضية الفلسطينية، أنه يرى نفسه هامشا في صناعة التاريخ والمستقبل، تحميه دول وتزيله وتتحكم في هويته وثقافته وشعائره ومصيره واقتصاده، وهذا ما يدفعه للظن أن التاريخ لا يقف عند قضية أو هوية أو عرق أو صراع، وأن التاريخ سيمضي وسيسافر الفلسطينيون جميعا بجواز السفر الإسرائيلي، لكنه يجهل أن "إسرائيل" لن تكون جواز سفر له إلى أي مكان، إلا إلى مزبلة التاريخ، الذي يجهله بالتبادل.