لستُ متابعًا جيدًا للبرامج الكثيرة التي تُعرض على قنوات التلفاز المختلفة، ولستُ خبيرًا بالمسلسلات والأفلام عربيِّها وغربيِّها، وقد أكونُ مُحقًّا في ذلك أو مذنبًا، لا أدري كيف أصنِّفُ نفسي في هذا المجال، ولعلَّ من المسلسلات القليلة التي أتابعها هي مسلسلات القصص والروايات التي كنت قد قرأتها قبل أن تُتَلْفَز، أما ما يُثارُ من زوابع الأفلام التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فإنَّها بمواضيعها المختلفة_إن كان لها مواضيع_ لا تعنيني إطلاقًا.
في شهر رمضان من كلِّ سنةٍ تنبعجُ القنواتُ بأفلام ومسلسلات وبرامج مختلفة، جلّها يكون للترفيه حسب قناعات تلك القنوات، وبنيَّة "مش حَتِئْدَر تغمَّضْ عينك" وكأنَّ العربَ لا ينقصهم سوى هذا الهراء المبثوث في هذه البرامج الهابطة، أو لربُّما فَطِنَت تلك القنواتُ إلى عيونِنا المغمضة على علاتنا، وعلى خيباتنا/ خيباتهم، فالقضايا الكُبرى لا تستحقُّ أن نفتح عيوننا عليها ولها، فجاءتنا ببرامجَ تعوِّضنا عن تلك الإغماضات المتراكمة، وتذكرنا بأننا يجب أن نظلَّ متَّقدي الأذهان، مفتوحي العيون على كلِّ ما لا ينفع، وأن نهربَ من نومنا العميق، إلى موتنا السحيق، لنتابع على قنواتِنا (الحُرَّة) جنائزَنا وبيوت عزائنا، وأن نسيرَ أحيانًا على رؤوس أقدامنا صامتين، مأخوذين بمشاهد الخشوع، ونحنُ نودِّعُ (نحن) الميِّتة فينا منذ زمن. فمن نحن أصلًا؟
إنَّ نكران الذات يُعدُّ من أعلى قِيَمِ التضحية، عندما يكون ذلك في المشاهد العظيمة، والمواقف الكريمة، ولكنَّ الأمر في حالتنا العربية يختلف تمامًا، فقد خلعنا جلودنا المكويةَ بالصبر المصطنع، وبدلنا بها جلود الآخرين، فَلَبِسْنا الرذيلةَ والسقوط في اللحظة، وجلبنا لنا ولأبنائنا المفاسدَ من كل حدب وصوب، وصارت الضحيةُ تضحك للجلاد، وتتألمُ له وعليه وهو يجلد عزَّتنا ونخوتنا وشهامتنا التي كنا نقرأ عنها ذات يومٍ في متون بعض المعلقات، وفي شعر الحماسة والحروب، لتكتشف لنا تلك القنوات التي تصبُّ مياهَها الآسنة في أرواحنا، أنَّ التاريخ مزوَّر، وأننا نعيش مع أبناء عمومتنا النبلاء، الذين عبروا البلاد ناعمين منعَّمين، واستعادوا حقَّهم المسلوب عبر التاريخ، وهؤلاء الناس من الضحايا صبروا أكثر من اللازم، وآن الأوانُ لكي نثوبَ إلى رشدنا، ونؤوب إلى وعينا، وننطلقَ من مبادئ التسامح والتعايش التي ترتضيها الديانات جميعها، فلا يجوز أن نكون (أكّالين نكارين) فهؤلاء الفاتحون الجدد يدخلون البيوت من أبوابِها كما يقول إميل حبيبي ساخرًا في متشائله. أما ما قاله درويش:" وأهنّئ الجلادَ منتصرًا على عينٍ كحيلة...مرحى لفاتح قريةٍ! مرحى لسفَّاح الطفولة" فإنَّه قَد فُهِمَ حسبَ قنواتِهم بأنه لا بدَّ من (مَرْحَبَتِنا) فعلًا بهؤلاء العابرين، وأن نظلَّ نُمَشْئِلُ ونُحَوْقِلُ ونهلِّلُ لهم خوفًا من الحسد، أو تعبيرًا عن قدرةِ اللهِ في صياغةِ شعبه المختار، فاخترنا لهم الشهر الفضيل ليكون حاضنًا جامعًا لعوائلنا أمام شاشاتٍ تمجِّدُ الضحية، ولِنَخُصَّهم بمسلسل (أم هارون) الذي ينظر من جديد بعين العطف لأبناء عمومتنا، ويحاولُ كيَّ الوعي الإنساني الوطني، ويصرُّ على شيطنةِ الفعلِ المقاوم في زمن الرضوخ. وليس ببعيدٍ عن هذه المهادنة الخبيثة، يطلُّ علينا برنامج رامز جلال(مجنون رسمي)، ليشكِّلَ ضربةً أُخرى في ظهرِ الوعي، وليحطَّ من قيمة الأعمال الفنية، فلا هدف ولا هدّاف، فأيةُ قيمةٍ لعملٍ فنّيٍّ تُنفقُ فيه الملايين ليكون بهذا الشكل؟ وما الغايةُ من إذلال الضيوفِ وتعذيبهم بفلسفةٍ ساديةٍ؟ وما الرسالةُ التي ترغبُ القناةُ المنتجة في إيصالها إلى أجيالنا في هذا الوقت؟
يبدو أنَّ الجنون هو عنوان المرحلة، فمن المجنون إلى أم هارون، ضاعت بوصلة الفنون، وربَّما سنضيعُ أكثر وأكثر، وسنكون أكثر جنونًا إذا ما استمرَّينا بمتابعة هذه الشعوذات الجنونية، وإذا لم تتحرك الأقلام الحرة، لفضحِ كلِّ هذه الهجمات المضادة لقيمنا، والهادفة إلى تدجين الحسِّ الوطنيِّ والقيميِّ.