لأحمد أبو سليم (3-3)
كتبها: نضال القاسم
الشخصية الروائية
لا بدَّ من الإشارة هنا إلى ظهور ثلاثة أنماط من الشخصيات التي قام الروائي بتوظيفها والتي وجد فيها ضالته لتحديد هوية الشخصية داخل العمل الروائي، حيث توزّعت بين الشخصية السوية (الإيجابية)، التي hقترن فكرها بفعلها، وأخرى أخفقت في إلباس الفكر رداء الفعل، بينما أضاعت الثالثة روح الفكر في متاهات الفعل اللامسؤول، وهذا ما حدا بالكاتب - أحيانًا- إلى استبطان الذات واللجوء لاستخدام عنصر الحوار الداخلي (المونولوج) بغية التعبير عن الإحساس الداخلي للشخصية عبر رؤية ذاتية، وخاصةً فيما يتعلق بالنمطين الأخيرين، وهنا يُثار سؤال! فهل يا ترى وفق أبو سليم في تحقيق التوازن المطلوب بين فكر الشخصية وأحاسيسها، وبين مواقفها المعبرة وسلوكها اليومي مع بقية الناس، عبر الحوار بمختلف أنواعه؟ هذا ما ستكشف عنه الشخصيات ذاتها.
وبالرغم من الأحداث المأساوية ونهاية الشخصيات المفجعة، إلا أن الكاتب ترك لنا بصيص أمل، حيث إن بعض الشخصيات الثانوية في روايته لم تنته، فقد صمدت حتى النهاية ولكن حركتها الآن قد هدأت، لا لشيء إلا لأن الواقع العربي الراهن لا يحتمل حركتها، ولكنها في الغد القريب ستملأ الوادي سنابل، وتكون قادرة على أن تعبر عن نفسها، وتخرج من هذه البوتقة الضيقة وتذهب باتجاه مغاير وتقرر حركتها ومصيرها بنفسها وبدون إملاءات خارجية وبدون الاستعانة بأحد، وفي هذا المقام ثمة ملاحظات يمكن سوقها حول بعض الشخصيات الأساسية في الرواية وهي:
• وحيد: شاب أردني، ظلَّ عشرة أعوام يخرِّجُ Hفواج المقاتلين بلا توقُّف، أول ما يلفت الانتباه فيه هدوؤه، خاصة وهو يُخرج بين الحين والآخر من جيبه قلماً ودفتراً صغيراً يدوِّن فيه بعض الكلمات القليلة ثمَّ يعيده إلى جيبه دون أن يعرف أحدٌ ماذا كان يكتب بالضبط.
• أبو الفوز: على الرغم من كلِّ الحزن الذي كان يطفح به المكان كان أبو الفوز ضحوكاً، تم تعيينه مسؤولاً عن الخمسين، وقد حاول أبو الفوز أن يستغل الثورة ليحصل على معاش لأخته الأرملة زينب حينما جاء بها لتقوم بالتمثيل على سعيد بأنها أرملة أخيه الشهيد عيسى، وما يميز شخصية أبو الفوز هو قدرته على كسب ثقة الآخرين بيسر وسهولة، ولديه قدرة عجيبة على جعل الآخرين يفشون له بأسرارهم، ويشاورونه بأدق تفاصيل حياتهم دون أن يلقي سؤالاً واحداً على أحد.
• خليل: هو المسؤول العسكري والأمني الأول عن موقعي التنظيم على خط الاشتباك في الخمسين والستين، وهو نموذج لرجل الأمن في الأجهزة الفلسطينية، نظمّهُ وديع الذي التقى به في موسكو عندما كان يدرس الفلسفة هناك، كان يتسم بالجدَّية دائماً، كثير السُؤال حتَّى عن أدقِّ التفاصيل، لكنَّه لم يبح يوماً بسرِّ أحد أبداً، وهو من أكثر الرجال قدرةً وتأثيراً.
• ميشيل: لبناني مسيحي ماروني، لا يعرف أحدٌ بالضبط متى انضم إلى التنظيم، كان أكثر من المقاتلين فائدة في كل الظروف، ومع أنه كان يقدّم للمقاومة خدمات الاتصال بين المناطق، ويغامر بنفسه، إلا أنه قُتل في الجبل على حاجز للحزب الاشتراكي الذي كان حليفاً للثورة الفلسطينية رغم كل محاولاته إفهام من قبضوا عليه بأنه مقاوم في صفوف فصيل فلسطيني يساري، وهكذا فقد ميشيل حياته بالمجان.
• عبد الكريم: شاب فلسطيني من منطقة طولكرم، كان كثيراً ما يوصف بالنِّسيان، واللامبالاة، ليفاجئك كثيراً بأنه ليس كما تظنُّ، وأنه يحفظ بعض التفاصيل التي تدور في عيتات كلمة كلمة، كان قد سافر من طولكرم للدِّراسة في رومانيا ثم التحق بالثورة أثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان ولم يعد قادراً على العودة إلى رومانيا ولا إلى فلسطين.
• إدريس: شاب مغربي، مثَّل المغرب في بطولات كثيرة في سباق المسافات الطويلة عربياً وعالمياً، شارك ذات يوم في بطولة في فرنسا، ووقع ضحية تآمر فرنسي- اسرائيلي قذر حين وضعوا له في الطعام مادة مُسهلة جعلته يترك الميدان جرياً إلى الحمام، وسط تصفيق الجمهور الذي راح يهتف هازئاً منه، ولهذا فقد كانت رغبته في الانتقام من الاسرائيليين سبباً من أسباب انجذابه للثورة والتحاقه بصفوفها.
• رجب: يقول أبو سليم في الرواية عن رجب المجنون أن نصف المخيم ولد سفاحاً من رجب المجنون، وقد يكون رجب من حيث لا ندري هو عيسى المخلص الذي كان سعيد يبحث عنه، ولعل الاستغراق في أعماق هذه الشخصية، من خلال خيال القاص جعلنا نتصل معها عبر الخيال السردي بالحياة الداخلية لهذه الشخصية، فكانت الصور السردية المتحوّلة من العادي إلى غير المألوف، حيث تتحرّك الصورة السردية، وقد استطاعت اللغة الساخرة أن تبلور صورةً جديدةً تليق بهذا الرجل من شأنها أن تعمل على توصيل الغرض الذي أراد الكاتب توصيله في رسم هذه الصورة غير الطبيعية.
• ليلى: تعمل على جهاز اللاَّسلكي، على الرغم من الود الذي كانت تبديه لسعيد إلا أنها كانت تتهرب منه ولا تعطيه شيئا، فلم يكن بمقدورها أن تخدعه، فهي امرأة قد تعرضت للاغتصاب من شقيقها أحمد، ومن بعد من الكتائبيين الذين امتهنوا جسدها في شاتيلا، حيث أن شقيقها اعترف لهم بأنه يعمل جاسوسا مع (إسرائيل) لعلهم يرحمونه، ولكنهم مع ذلك تناوبوا على جسد شقيقته، وتركوها مدمرة النفس، فلجأت إلى حرق جسدها، وبقيت بعد إنقاذها مشوهة الفخذين والنفس، وهذا ما دفعها للتهرب من سعيد الذي أحبته، ولكنها لا تملك أن تعطيه حبا بهذا الجسد المشوّه، ونفسها المدمرة.
• سعيد الدوري: لقد برزت هذه الشخصية التي تستعين بالعرافة لمعرفة مصير شقيقها الغائب، برزت على جانب من التعقيد وبدت مميزة، منذ ذهب للدراسة في دمشق من أجل إكمال تعليمه والبحث في الوقت ذاته عن شقيقه الغائب الذي فُقدت آثاره منذ العام 1970، وفي دمشق أصبح يتابع الصحف ويشاهد على التلفاز المجازر الدموية التي ارتكبها الصهاينة في صبرا وشاتيلا، فقرّر الالتحاق بالثورة، ثم أصبح بعد وقت قصير جدًا من منتسبي الخمسين والستين في «عيتات»، وشخصية سعيد هي شخصية مثقفة واعية ترى الأمور على حقيقتها من جميع الزوايا، وهي بالتالي قادرة على توجيه السياسي ومراقبته بدلاً من تركه في الساحة وحيداً ليتحكم بمصائر البشر، وقد تعرض سعيد للتحقيق ثلاث مرات في بيروت وعسقلان وعمان.
• سامي الدوري: هو الشقيق الأصغر لسعيد وعيسى الغائب والموقف الوحيد الذي ظهر فيه في الرواية هو أثناء لقاءه مع أخيه سعيد في دمشق، حيث أخبر شقيقه سعيد بما أسرّت به إليه جدته لأمه، وهي حادثة تعرُّض أمهما للاغتصاب على يد ضابط يهودي يُدعى «مردخاي» وذلك في أثناء سقوط مدينة حيفا عام 1948 حيث حملت الأم جراء هذا الاغتصاب وأنجبت ابنها البكر عيسى، وبهذا فإن عيسى الغائب ما هو في الحقيقة إلا ابن ذلك اليهودي «مردخاي»، والذي أصبح بعد نكسة حزيران 1967 حاكماً عسكرياً لمدينة الخليل، وكانت هذه الحكاية صادمة لسعيد، وهي بلا شك حكاية رمزية تحمل في مضامينها أبعاداً كثيرة يمكن لاحقاً الحديث عنها مطولاً لما للأمر من دلالات عميقة ذات صلة بالواقع السياسي العربي والفلسطيني.
• عيسى: هو الشقيق الغائب لسعيد الدوري منذ العام 1970، وعلى الرغم من أن والد عيسى هو «مردخاي» اليهودي الذي أصبح حاكماً عسكرياً للخليل إلا أن عيسى بقي هو المخلّص وهو رمز التضحية والبطولة والفداء في سبيل فلسطين الطاهرة، ومن مفاجآت الرواية أن مصير عيسى بقي لغزاً، فبينما أكدّ البعض أنه مات، إلا إن بيريز أكدّ لسعيد أنه سيخبره بمكانه إن تعاون معهم. وبهذا يمكن القول إن هذه الشخصية قد برزت على جانب من التعقيد وبدت مميزة كذلك كما هو الحال مع شخصية سعيد.
وبعد؛
أحمد أبو سليم كاتب ملتزم يؤمن بأنَّ النصَّ خطابٌ يعبِّر عن واقعٍ ثقافيٍّ وحضاريٍّ، ويرمي إلى إحداثَ تغيير في العقليّة والمواقف والتوجّهات.
وتكمن أهمية رواية «الحاسة صفر» في أنها تعدّ أنموذجاً بليغاً لهذه المرحلة من تجربة أحمد ابو سليم الفنية. مع هذه الرواية اكتملت ملامح البطل الروائي الإشكالي في علاقته بالعالم والزمان والمكان والكائنات مستدعياً تبعاً لذلك نمطاً مختلفاً لساردٍ استبدل عيناً بأخرى وموقعاً بآخر وخطاباً بآخر مخالف، وكثيراً ما يروي القاص أحداثاً كثيراً ما تتسم بالابتذال، لا وجود لبطل بعينه يقوم بأحداث خارقة تلفت إليه الأنظار.
وقد أثارت الرواية جملةً من الآراء البنّاءة لعدد من الأدباء والنُقَّاد المخلصين للأدب، وقد أكد هؤلاء في نصوص منشورة نجاح «الحاسة صفر» بسبب أسلوبها الابداعي الأخّاذ، وأنا أكرر هذا التوصيف، فقد تمكن أحمد أبو سليم من تحويل الوقائع التي عاشتها شخصيات روايته الى مشاهد ولقطات مدهشة، بلغة بيضاء، تلقائية، نافرة، ما أن يطالعها المتلقي حتى تترسخ صورها في أعماقه، فتحيله من قارئ خارج النص الى عنصر منصهر في دوامة الاحداث، فيصبح أحد شخوص «الحاسة صفر»، ويعيش لهيب الحرب والجوع والحصار والحب والموت المزروع في كل صفحة من صفحاتها