إذا كان لا بد من وضع خطاطة للتنظيم الغريب الذي تم فرضه علينا منذ منتصف مارس الماضي، وهو التاريخ الذي تقرر فيه الحجر، فيمكننا أن نستعير من لايبنيز خطاطة المونادلوجيا.
ما هي الخصائص النظامية لتكوين المجتمع المحجور؟ لنحاول وصفها منذ البداية .
أولاً، كل شخص معزول في منزله، بدون باب أو نافذة لأنه لم يعد يُسمح له بالخروج إلا من أجل جلب ما يقيم به أوده. نشهد الآن فضأنة الدوغما الليبرالية لتعزيز الفرد وتذرير المجتمع: عدة أنوية مستقلة عن بعضها، ولكن تشكل عالما من وجهة نظرها: على الأقل هي مجموع وجهات النظر التي هي العالم.
نوافذ متناقضة
إذا كان الأفراد مفصولين وسط أربعة جدران، فإنهم مع ذلك يستمرون في الارتباط الذي أصبح ممكنا بطبيعة الحال بفضل القنوات الإخبارية التي تركز على الخبر وتوزعه، ولكن بشكل أساسي عن طريق الشبكات الاجتماعية، فيسبوك، واتساب، إنستاغرام ، إلخ..
للانتماء إلى الشبكة، من الضروري الاتصال عبر شاشة، نافذة متناقضة على العالم، لأنها تظهر بقدر ما تخفي، تخفي (هذه هي وظيفة أي شاشة) وتظهر ( كفضاء للعرض أو كواجهة). إنها للوهلة الأولى تغطية: ولكن ربما لم يعد هناك شيء آخر لتغطيته، ربما الشاشة في طريقها إلى أن تصبح واقعا، وسنكون مضغوطين بشدة من أجل اكتشاف ما يوجد وراء الشاشات، ستجعل على الأقل ما هو مخفي مرئيا، ومن ثمة سيظهر من خلال الشاشة.
في الواقع، يتميز حدث جوفيد-19 برؤية غير مسبوقة، حتى عندما يكون كل واحد محجورا في منزله، وأفقه الوحيد هو جدار جاره، أو الشارع، أو الفناء، أو سور الحديقة بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في البادية.
إعادة تشكيل الحداثة
قماش منسوج يضمن شكلا أفقيا للارتباط، من المؤكد أنه مخترق بانتظام برسائل من الأعلى، من الحكومة، تؤكد من جديد عمودية وهيئة مقررة، أمرا ليس فقط تنظيما طارئا (نظام الشبكة)، ولكن أيضا أمرا ينظم (الأمر المعطى، أمر القيادة) يفترض أن يحتفظ بمبدإ علته في حد ذاته... (ولكنه قبل كل شيء معزز بمشورة الخبراء، الذين هم الأطباء في هذه اللحظة).
تنظيم ونظام، عمودية، ولكن قبل كل شيء أفقية، هذه هي إحداثيات النظام، وهي إحداثيات قديمة بالفعل ولكنها خضعت للتهذيب. لكن هذه الإحداثيات أزاحت بُعد الفضاء، الذي تم اختزاله بدوره إلى نظام (تنظيم). يتم تقاسم نقط الشبكة دون تغيير المكان، فضاء مثالي، مثل الفضاء اللايبنيزي.
من المسلم به أن هذا التشكيل المتطرف ولد من أزمة كوفيد-19، ولكن أليس هو حقيقة تشكيل حداثتنا، وحياتنا الحضرية تحديدا؟
التشكيل الميتافيزيقي
عند لايبنيز، هذا التشكيل ميتافيزيقي: لا يتعلق الأمر بتنظيم طارئ، سياسي، تاريخي أو تفاعلي تجاه وباء ما، بل حقا بوجود العالم، بوجود المونادات، بالطريقة الوحيدة الممكنة للوعي بهذا العالم. هذا العالم وجميع العناصر التي يتكون منها ليست عقلانية فحسب، بل لها علة وجود. ذلك هو ما يبرر الله، الذي يتجلى كماله في العالم.
اليوم نحن بعيدون عن المعنى الأكسيولوجي (القيمي) للنظام، كما أننا بعيدون أيضا عن أي شكل من أشكال التبرير أو الربوبية التي حفل بها المشروع اللايبنيزي. ومع ذلك، من الجدير بالملاحظة أن الخطاطة التي رسمها بشكل جيد تجعل من الممكن نمذجة المجتمع الذي ننتمي إليه. حتى أنه يمكننا أن نفترض أن الأمر لا يتعلق، بالنسبة لنا، بتنظيم طارئ للاجتماعي، لكن حقيقته في حد ذاته هي نتيجة لإيديولوجيا عميقة: لقاء الميثاق الليبرالي بالعقلانية العلمية.
لنر الآن كيف وصل لايبنيز انطواء المونادات على ذاتها بتنظيم العالم. أحد تحديات المونادلوجيا هو التفكير معا في التنوع والانسجام. المشكلة في مثل هذه المشروع الفلسفي هي بالطبع معرفة من أين يمكن أن يتشكل هذا الوصف: هل الراصد هو أحد نقاط النسق؟ ولكن كيف يمكن فهم الكل؟ وإذا كان كلا، فهل يمكنه التقاط التفاصيل؟ ولكن قبل أي شيء، بأي حق وضع نفسه مكان الله؟
على هذه الأسئلة، يبدو أن منطق الشبكة يقدم إجابات، على شكل خطاطة على الأقل. كل نقطة ضرورية للشبكة، تشارك في تكوينها، لها ولوج غير محدود تقريبا انطلاقا من موقعها، ومع ذلك فهي تعتمد كليا على النقط الأخرى، حيث أن النسق هو مجموع الروابط التي تمنح كل نقطة وضع محفز، مساهم، نهائي أو ممرر.
أكيد أنه سيكون من الصعب استخدام التعريف اللايبنيزي للموناد لإدراك "الفرد" المعاصر، حتى لو كان بإمكاننا جرد الأنساب التي تتطلب استدعاء تاريخ ثقيل - هذا ليس هدفنا ها هنا. لن تكون ثيوديسيا (ربوبية) لايبنيز كنظام أخلاقي مفيدة جدا لنا لقراءة الوضع الحالي، رهان الفيلسوف الألماني ليس هو نفسه بالنسبة لنا، ولا أدواته الميتافيزيقية أيضا. ومع ذلك، أبدع تصورا يمكن تصديره.
الخطة الشاملة والحتمية
"إن الموانادات ليس لها نوافذ عبرها يمكن لأي شيء أن يدخل إليها أو يخرج منها"، يكتب لايبنيز في المقال السابع من كتاب "المونادلوجيا". لذلك لا يمكن أن يكون هناك تفاعل مباشر بين المونادات، الكل مغطى بالخطة الشاملة، الكل قائم كما الحال في النسق، التظاهر بالتصرف انطلاقا فقط من الإرادة الحرة والمستقلة عبارة عن وهم؛ فكل تغيير حدث إلا ويؤثر على الكل.
هذا الكل، عند لايبنيز، محكوم بعقلانية متكاملة، ترجع من ناحية إلى الحتمية (كل شيء له سبب، ويمكننا تحليل فكرة كل شيء إلى ما لا نهاية)؛ ومن ناحية أخرى إلى بداعة النسق، ما دام أن كل شيء له سبب قصد تبريره. لكن هذا التبرير لا يمكن التفكير فيه على المستوى الفردي: بما أن الكل مترابط، فهو (التبرير) يحيل على ما لا نهاية من الحتمية التي يندرج فيها كل شيء، والتي هي العالم نفسه، ذلك الذي اختاره الله، لأنه الأفضل ما في العوالم الممكنة بالنظر إلى التكلفة العقلانية. يمكن أن نقول، بلغة عالم الرياضيات، إن الله اختار الحل الأنيق، أي الأكثر اقتصادا. وكما أوجز ذلك إميل بوترو في تقديمه، "فقد نظم الله منذ البداية جميع المونادات دون استثناء بحيث أن كل إدراك متميز لأحدها إلا وتتوافق معه، في سائر الموانادات الأخرى، إدراكاتات مشوشة، والعكس صحيح، بحيث يكون كل موناد ممثلاً للكون كله، من وجهة نظره."
ها علاش مجموع وجهات النظر يشكل الكل، بنفس الطريقة كما في الشبكة، إنه مجموع النقط التي هي الشبكة، ولكن أيضا نظامها (الذي يتجلى في التناغم عند لايبنيز). سيتناول نيتشه فكرة المنظورية، لكن بعد إجلاء الله وجميع أشكال العقلانية المحايثة. ومع ذلك، نلتقي مجددا بفكرة أن العالم ليس سوى مجموع وجهات النظر، سواء كان فوضويا أو منظما.
كل فرد هو وجهة نظر عن العالم، ولكن بما هو كذلك، لا يستطيع تغييره. لأنه إذا كان كل موناد وجهة نظر، والعالم هو مجموع مونادات ، فعندئذ لم يعد هناك أشخاص خارج المونادات. سوف تكون الليبرالية المتطرفة قادرة على الاستفادة من هذه المعادلة: الأفراد، الذين تحركهم رغباتهم، أو نياتهم ، يشاركون في خطة شاملة باتباع مصالحهم الأنانية - خطة شاملة تزيد من المردودية بالحد الأدنى من التكلفة. تم استبدال الله باليد الخفية أو بقوانين السوق التي يخدمها السياسيون حاليا، من خلال مصاحبتها بشكل أو بآخر بترتيبات اجتماعية، ومماثلتها بقوانين الطبيعة.
العالم كنسق
غير أن حقيقة هذا النظام (الأيديولوجي لا الميتافيزيقي) تتجلى وتتجسد في الحجر الصحي. أبانت عولمة السوق القائمة على تذرير الاجتماعي عن وجهها الحقيقي: لقد أصبح الفضاء عديم الفائدة، أفرغت المدن، الشوارع والطرقات مهجورة، العالم يتحلل، لكنه ما زال باقيا من وجهة نظر كل محجور في منزله، أنفه على شاشته، وهو يتلقى أخبار العالم. إن العالم نسق، وكل واحد منا يشارك فيه، بلا حول ولا قوة.
ومع ذلك، فإن هذا العالم من لحم ودم موجود بالتأكيد في المستشفيات، لأن الألم فيها حقيقي، المهمة صعبة والوسائل متواضعة. لكن هذه النقطة العصبية التي هي أيضا النقطة العمياء للنظام الليبرالي المعولم، تعيد ترتيب كوكب الأرض بأكمله ضمن شبكة، مؤكدة مرة أخرى على التوافق، بل على التمفصل الذي أصبح اليوم ضروريا، بين الفرد/الذرة والاجتماعي/الشبكة.
وبالطبع ستكون هناك استنتاجات أخرى يمكن استخلاصها، وتأملات أخرى يجب إجراؤها، انطلاقا من هذه الحالة اللامتوقعة والمذهلة. نمذجتها هي الخطوة الأولى. الخطوة الثانية هي أن نرى، خلف الأبواب والنوافذ المغلقة على المونادات / الأفراد ، مقاومة الحس التضامني الذي يريد أن يخلق مجتمعا خارج الشبكة، أو باستخدام الشبكة دون الخضوع لها، هذه الرغبة في المشترك التي نفاها الميثاق الليبرالي من صيغته. المشترك متاح في السياسة، هذا ما يسمى بالخدمات العمومية، والحقوق العينية، التضامن، إعادة التوزيع. والخطوة الثالثة هي استخلاص استنتاجات من إجلاء البعد المكاني كإحداثية طبيعية، لصالح نظام مثالي بسيط (الشبكة): هذا التشكيل المتجذر بالحجر يصف بشكل صحيح كيف تشتغل المدن، حيث الفضاء محاصر ووظيفي. للخروج من الفضاء المثالي (بمعنى فكرة بسيطة)، ألا يجب أن ندمج في الاجتماعي بعدا طبيعيا، هو ارتباط الإنسان بالأرض، كإطار ممكن ووحيد لإعادة صياغة الفكر السياسي؟