الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

غرفة رقم (6)/ بقلم: عبد الله لحلوح

2020-05-09 09:44:20 AM
غرفة رقم (6)/ بقلم: عبد الله لحلوح
عبد الله لحلوح

      لأولِّ مرَّةٍ منذ إعلان حالة الطوارئ لمواجهة فيروس كورونا، زرتُ مجمع فلسطين الطبي رفقة والدتي أطال الله بقاءها؛ حيث أجرينا لها بعض الفحوصات، وخرجنا من قسم الطوارئ بعد ست ساعات. ما دفعني لكتابة هذا المقال القصصي، هو ما رأيته هناك من تفانٍ ودقةٍ في العمل، وذلك الجهد الجبار الذي يبذله الأطباء، وتحديدًا في قسم الطوارئ، حيث تنهالُ أفواجٌ وأمواجٌ من البشر الذين يحملون نصف الدنيا على رؤوسهم، وفي قلوبهم النصف الآخر من جهنم، فلا يزور المستشفى إلا مُكرَهٌ لا بَطَل، فالغرفةُ رقم (٦) التي تعرَّفْتُ إليها هناك، ولَم أكن أُدرك معنى كلام موظفة التسجيل النَّزِقَة التي قالت لي بصوتٍ أجَشّ: توجَّه إلى غرفة رقم (٦) عَلى إيدك الشمال، وفعلًا انتظرتُ هناك في الدَّورِ الطَّويل، وسمعتُ ما سَمِعْتُ من آهاتٍ تمثِّلُ كُلُّ واحدةٍ منها قصيدة حُزنٍ من العيار الثقيل، فأبو محمود القادم من قريةٍ نائيةٍ يجرُّ خلفَه أعوامه الثمانين، ومعها زوجتَه التي تنهَّدَت كما لو أنَّها تُحَضِّرُ لِجُنّازٍ مَهيب، تَرَكَها زوجُها الثمانينيُّ وذهب لمعالجة بعض الأوراق، وكان عدد الواقفين وأنا منهم أكثرَ من الجالسين على المقاعدِ التي تُشارِكُ المعذبين آلامَهُم، فهي الأُخرى باتت تَأْلَفُ قصَصَهم، وربما تبكي معهم، فَتَحرَّكَ شابٌّ يُعَلِّقُ يَدَهُ اليُمنى المتورِّمة برقبته برباطٍ أبيض، وأجلسَ العجوزَ بلطف: "تعالي يمّا أُقْعُدي مَحَلّي". وبدأتْ تَروي بلا استئذانٍ قِصَّتَها مع مَرِضِ السرطان دون أن تُسَمّيه، فقد فَهِمَ الجميعُ ذلك من خلال قولها: "( أجاني هظاك المرظ) بعد ما استشهد ابني بشهرين، من كُثُر ما شدّيت على حالي، انعميت، والله يا دوب مْحَقِّق إشي قُدّامي". عاد زوجُها وزَجَرَها، وأشار لها ألا تُكمِل. وخرج صوتٌ من غرفة رقم (٦) يناديها باسمها دون كُنيَتِها، ولَم تمكث في الغرفة سوى بضعِ دقائق، إذ خرج معها طبيبٌ مليحُ الملامح الظاهرة من وجهه المُكَمّم، وعلى رأسه غطاءٌ خاصٌّ بالأطباء، وَبِزِيٍّ أبيضَ كاملٍ ( البدلة الواقية) يَمْسِكُ العجوزَ بِيَدِه، يُهدْهِدُ حُزنَها، ويقول لزوجها: "ما شاء الله: الحجة صحتها مليحة، بس لازم تُدْخُلْ مباشرة على قسم الطوارئ، مِش على غرفة (٦)". حيث فهمت أنَّ الغرفة (٦) للحالات التي لا تستدعي تدَخُّلًا سريعًا، بل هي للفحص الأوّلي، وأَخْذِ عيّناتِ الدم إنْ تَطلَّب الأمرُ ذلك، هذا ما فهمتُه عندما جاء دوْرُنا، ودخلنا الغرفة، وكان رقم البطاقة التي حصلنا عليها ( ١٠٣) وهذا يعني أنَّ مئةً وثلاثةَ مُراجعين قد دخلوا الغرفة منذ الصباح، وما بين إجراء الفحوصات، وتسليمها للمختبر، وإجراءات الأشعة، والعودة للغرفة لمعرفة نتيجة الفحوصات، وكان النهار قد انتصف، وصل الرقم إلى ١٤٥ حالة. ولا أدري إنْ ظلَّ ذلك الطبيب في ورديَّتِه أم أخذ استراحةً واستلم آخرُ مكانَه، حيث خرجنا بعد أن شَكَرْتُه على بديع صنعه. فلماذا شكرتُ الطبيب؟

إنَّ ما رأيته في غرفة (٦) لا يُصَدَّق، طبيبٌ واحدٌ يقوم بكلِّ هذه المعاينات والفحوصات، تساعده  ممرضةٌ وحيدةٌ  لطيفةٌ أيضًا، يُديرُ ذلك الطبيب غرفته التي أحبَبْتُها لِما رأيته فيها من طيب التعامل، وسرعة الأداء، طبيب شاب، يعملُ وحيدًا عَمَلَ خليَّةٍ كاملة، دقيق الملاحظة، سريع الاستجابة، بارٌّ بِقَسَمِ الأداء وشرف المهنة، وأمام كلِّ هذه الحالات، وتعب الصيام، والضغط الهائل، وخشونةِ أصواتِ المرضى الذين يقرعون الباب ويفتحونه ويقتحمون الغرفة دون استئذان، يظلُّ مبتسمًا رؤوفًا رحيمًا، ولا أدري كم مرّة ترك الغرفةَ وانطلق كالبرق إلى قسم الطوارئ، ربّما لاستشارةٍ ما، أو لتهيئة الظروف لاستقبالِ حالةٍ تستحقُّ عنايةً سريعة. ثم يعود إلى عمله في غرفته سريعًا، ولطالما أثقلتُ عليه بالسؤال عن نتائج الفحوصات، والخطوات اللاحقة بعد خروج نتيجة كلِّ فحص، وكنت أتوقَّعُ أن يثورَ في كلِّ مرةٍ من المرات الكثيرة التي أسأله فيها، إلا أنه يبتسم ويقول: "بس ذكّرني باسمِ الوالدة لو سمحت". وينقر على أزرار لوحة المفاتيح، ويتأكد إنْ كانت كلُّ الفحوصات، وهي كثيرة، قد وصلت، ثمَّ يشرح بلطفٍ ولين، وأخيرًا قادني إلى قسم الطوارئ؛ لمتابعةٍ أخيرة من الطبيب المختص، وهناك أسمع العجوز وزوجها الثمانيني على السرير الذي يفصلنا عنه ساترٌ قماشيٌّ، يتحدثان عن طبيب غرفة رقم (٦) وتقول العجوز: الله يرضى عليه ابن هالحلال.

إنَّ كلَّ هذه المقدمة الطويلة التي قد تكون مملةً، ليست سوى تمهيدٍ لما يجب أن يُقالَ فعلًا، وهو أننا كثيرًا ما ننتقد ونَشْتُمُ ونُجَرِّحُ دون أن نُجَرِّب، وأننا نهوى النقد الهدّام، ونشجب ونستنكر ونلعن، ونهوى الهدم كالنِّهلستيِّ الذي فكّرَ بهدم الحياة ورفضها وبنائها من جديد، فماتَ وحيدًا حزينًا بائسًا يائسًا؛ لأنه لم يدْرِ كيف ينتقدُ الفنَّ والجمالَ والعادات والتقاليد، ولَم ينظُر إلا إلى النصف الذي يريده من الكأس. فكم هو جميلٌ أن نتريَّثَ في أحكامنا، وأن نحاكمها قبلَ أن نطلقها جزافًا، وأن نكون واقعيين في تصوّراتنا وانتقاداتنا، دون تحسين الصورة وتلطيخها بالمساحيق التجميلية، وفي الوقت ذاته دون تهشيمها وتقشيرها وتمزيقها وتشويهها، ففي الحياة كثيرٌ من المنغصات، ولعلَّ أكثر ما فيها لا يُعجبنا، ولكن لا بدَّ من البحث عن تلك النقطةِ الصغيرة التي تسبح في عوالمنا الذاتية، إنها نقطة الرضا التي تستوجب الشكر، فمتى اهتدينا إليها، يمكن أن تتحوَّلَ مضامين حياتنا، وتتغير أفكارنا،  ونصبح أكثر جمالًا، ونغيِّرَ من سلوكيات البشرِ بتعزيز الجوانب الإيجابية فيهم، لا أن نظلَّ نجلد ونلعن ونكفر.