يحتدم النقاش هذهِ الأيام و تختلف الآراء حول دور رجالات المال والأعمال ومسؤوليتهم تجاه الأزمة الصحية والاقتصادية التي يمر بها وطننا.
بداية، أعتقد أن هذا السجال يحتاج إلى رحابة صدر ومسؤولية ووعي ومصارحة بدون مجاملات أو تملق أو محاباة، وهو بلا شك بحاجة لأبحاث وحقائق وأرقام، ولكنني سأحاول الإيجاز والاختصار هنا.
إن تجارب العديد من الدول الناشئة تختلف في سرد حكاية تطورها ونموها وازدهارها ودور مختلف قطاعات مجتمعاتها في تجربة البناء وهذا أولاً وأخيراً يعتمد على مستوى انتماء هذه الشرائح لبلدها ودور القيادة في إدارة المجتمع وبالتالي المصداقية والثقة ما بين المواطن وقيادتهِ. وأيضاً شعور المواطن بالانتماء لوطنهِ أولاً قبل عشيرتهِ وبلدتهِ وشركتهِ.
إن نظرة سريعة على تاريخ ودور رجالات المال والأعمال اليهود في أوروبا وأمريكا منذ موجات الهجرة الأولى في بدايات القرن الماضي مروراً ببناء الدولة على أنقاض أراضينا المسروقة وصولاً إلى يومنا هذا ومقارنة ذلك بدور أهلنا المقتدرين في الوطن والمهجر من أصحاب المال والأعمال؛ يلاحظ الإنسان أن المقارنة لا تُذكر بتاتاً.
إن الرأسمال المحلي مثلهُ مثل أي رأسمال آخر بالعالم ما يهمهُ أولاً وأخيراً تنامي ثروتهِ وازدياد أرباحهِ ولهذا فهو بحاجة لبيئة هادئة ومستقرة تؤمن له هذا الطموح وهو بلا شك يختلف بمكوناتهِ وتركيبه وبالتالي سلوكه وأخلاقه ومواقفه.
فهناك مثلاً الرأسمالي أو المقتدر والذي جنى ثروته بتدرج ولكن بطريقة منطقية قد يراودها الذكاء أو الحظ أحيانا أو الإرث العائلي ولكن في النهاية هي ثروة تكونت بالعقل والمنطق والزمن ورافقها بلا شك تطور في مستوى الوعي الاجتماعي والأخلاقي والحضاري، وهذا النمط غالباً ما يكون أكثر انتماء لوطنهِ وشعبه.
وهو بالتالي على مستوى من الشعور الوطني ولهُ مساهماته في دعم الاقتصاد الوطني وتعزيز الصمود وتشغيل أعداد واسعة من الأيدي العاملة.
أما الجزء الآخر من الرأسمال المحلي والذي في غالبيته قد تكون بعد اتفاق أوسلو، كون ثروة قد تكون في كثير من الأحيان هائلة وغير معروفة المصدر ولم تأت بتدرج بل جاءت نتيجة تسهيلات قُدمت لهم من صناع القرار المحليين أو بعض التسهيلات الخارجية وقد تحول جزء منهم إلى أخطبوط اقتصادي يمتلك العديد من الشركات والوكالات منها في الوطن أو في الخارج، وهذهِ المجموعة بطبيعتها تركب الموجة دائماً وهي جاهزة لأن تتحالف مع أي سلطة قائمة وطنية أو أجنبية المهم أن تراكم أرباحها وتحافظ على سطوتها.
ومن هنا فإن غياب قانون المساءلة ومعرفة مصادر الثروة وبعض التحالفات التي تتم مع صناع القرار هي التي تسمح لهذهِ الفئة بتراكم ثروتها الشخصية على حساب الثروة الوطنية وبالطبع فإن الجزء الأكبر من ثروة هذهِ الفئة يتم استثمارها أو تهريبها خارج الوطن.
إن المسؤولية الأولى والأخيرة تقع دوماً على السلطة الحاكمة والتي بدورها تضع الأنظمة والقوانين من أجل بناء الاقتصاد الوطني ولكن للأسف فإن الأموال التي وصلت إلى أراضي السلطة الفلسطينية منذ أوسلو حتى عام 2018 حسب صندوق النقد الدولي ما يقارب 90 مليار دولار كان من الممكن أن تبني اقتصاداً وطنياً متيناً.
ولكن للأسف فإن أغلب هذه الأموال ذهبت إلى طريق غير ذلك. إن كان ذلك في القطاع الحكومي أو ما يسمى المنظمات غير الحكومية.
إن ما نحتاجهُ نحن في هذه المرحلة ومن أجل تعزيز الصمود الذي هو السلاح الأهم في المشروع الوطني التحرري خطة حقيقية ومدروسة ومؤتمنه يشارك بها الجميع القطاع الحكومي والقطاع الخاص من أجل تهيئة الفرصة لبناء الاقتصاد الوطني الحقيقي ومن المهم في هذا المجال مساءلة أصحاب النفوذ المالي الفاحش وغير المعروف المصدر وذلك من أجل أن يشعر المستثمر الوطني بطمأنينة حول مستقبل مشاريعه.
إن حلم بناء الوطن ومواجهة مؤامرة التصفية لا يأتي بالاجتماعات والتصريحات بل هو بحاجة لمواجهة شاملة ولخطة مدروسة على كافة الأصعدة الاقتصادية والتعليمية والفكرية من أجل أولاً خلق شخصية وطنية فلسطينية وهوية واحدة تنتمي للوطن قبل كل شيء وإلى جانب ذلك خطة اقتصادية تؤسس لبناء قاعدة لاقتصاد وطني حقيقي وليس لاقتصاد شركات ووكالات لأشخاص بعينهم أصبحوا يمتلكون الجزء الأكبر من ثروة البلد، ولكي يتم ذلك لا بد من صياغة أنظمة وقوانين الصمود وهذا لن يتم إلا بملء الفراغ القانوني والدستوري أي من خلال انتخابات تشريعية ورئاسية تعزز قيادة تمثل كافة شرائح المجتمع من أجل سن أنظمة و قوانين تؤسس لمشروع صمود شعبي وثقافي واقتصادي قبل فوات الأوان.