تربينا على قصص الأبطال والبطولة. ذلك البطل الذي لا يُقهر ويهزم الجميع. كل قصصنا التاريخية ورواياتنا وإرثنا وثقافتنا العربية مبينة على بطولة الفرد المغوار. وهكذا أيضاً كان تاريخ جميع الثقافات العالمية الأخرى مبنية على القائد الباسل وليس القيادة الباسلة؛ القائد الحكيم وليس القيادة الحكيمة. لم نكن نرى في الدولة أو في الجيش أو في المجتمع إلا قائداً واحدا يتبعه الجميع وينصاع لأوامره، سواء كان الإمبراطور أو الملك أو الخليفة أو الرئيس. ويتباهى الشعب بجبروت قائده، وشخصيته وحزمه وبعدد البشر الذي قتلهم والجيوش الذي هزمهم. وكان يصل تعظيم القائد أحياناً عند بعض الشعوب إلى الألوهية أو الارتباط المباشر بالإله. نحن لا نتكلم هنا عن الأنبياء، بل عن بشر، ولكنّ الناس العامة ألبسوهم لباس القداسة من شدة إعجابهم بهم وبأفعالهم وبقيادتهم للجيش والدولة، أو لمصالح شخصية مادية. ونحن هنا لا نتكلم للأسف عن التاريخ الغابر فقط، حيث كانت تكثر القصص الخرافية التي تسلي الأطفال في تأليه الأبطال، بل ما زال ذلك ينطبق على حاضرنا وواقع بعض الدول العربية، حيث لا يتردد بعض رجال الدين الإسلامي والمسيحي من ربط حاكم دولة معينة بالإله. وإذا كنت تستهجن ذلك، فارجع إلى اليوتيوب لتجد عشرات الفيديوهات التي تتحدث بكل صراحة عن ذلك. وحتى لا تعتقد أن ذلك يقتصر فقط على دولنا العربية، أنظر إلى بعض رجال الدين المسيحي الإنجيليين في الولايات المتحدة كيف يؤلهون الرئيس ترامب، وراجع ما قاله بوش الأصغر أن الله أوحى له بغزو العراق. فحتى في أعظم الدولة الديمقراطية اليوم، ما زال هناك خلل وزلّات وأحيانا يتم الربط بين الزعيم وبين الإله.
ومع تفشي مرض النوستالجيا في مجتمعنا العربي، ودول العالم الثالث، بسبب حنيننا إلى الماضي البطولي والانتصارات القديمة، بينما نعيش اليوم أسوأ أزمان الهزائم الفكرية والعسكرية، أصبح لزاماً علينا مراجعة الوضع بكل صدق وصراحة. علينا أن نعترف بمرض حبّنا المُبالغ به للتاريخ وتعلقنا الشديد به وانغرامنا بتفاصيله، لنعرف كيف سنبدأ بمعالجة هذا المرض. فمن الطبيعي أن تفتخر الشعوب بتاريخها وانتصاراتها، لكن أن يصل فخرها وتعلقها به إلى درجة يفصلها عن واقعها الحالي ويفصمها عن كينونتها فهذا خطر محدق بالأمة يجب مواجهته بكل جرأة.
وبرغم سوداوية الوضع العربي اليوم، إلا أنّ الوضع ليس كله كذلك في العالم من حولنا. فقد قطعت العديد من أقطار العالم أشواطاً كبيرة في العصر الحديث في بناء دولة المؤسسات التي لا تعتمد فقط على الفرد الواحد أو المُخلّص أو الزعيم الأوحد. هناك دول وشعوب قررت التغيير وحاولت أن تخرج من الأنظمة الدكتاتورية إلى الديمقراطية. ويراقب الشباب العربي تلك الدول في أوروبا وآسيا وأمريكا وأستراليا، ويراقب تقدمها وتطورها في ظل أنظمة لا تعتمد على البطل المغوار. ويحاول الشباب جاهداً أن يستوعب هذا الفرق الشاسع بين الدول التي يقودها فرد واحد كما تعلّم في صغره، وبين دول حديثة تقودها مؤسسات ديمقراطية منتخبة من الشعب. وبدل أن يعمل الشباب على التغيير، وبسبب اليأس والإحباط الموجود في العالم العربي اليوم، تختصر تلك الشباب جميع الأزمنة وتحزم أمتعتها وتهاجر إلى الديمقراطيات الحديثة حيث الحقوق والحريات والحياة الكريمة.
إن اختزال سلطات الدولة جميعها في يد شخص واحد مخاطرة عالية جداً، لأنه وحده سيقرر مصير بلد وشعب، فما أسهل أن يأخذها إلى الحروب والدمار بسبب حكم طائش وتفرده بالسلطة والقرارات المصيرية. كما أنّ صلاح الحكم يعتمد على صلاح الفرد أو فساده، وليس له علاقة واضحة للشعب بالسلطة أو بالحكم. في الدولة الديمقراطية، هناك برلمان يحاسب، وقضاء مستقل يحاكم الرئيس والحكومة إذا فسدوا، أما في دولة القائد المغوار، فلا أحد يجرؤ أو يستطيع أن يتكلم عن محاسبة الحاكم أو محاكمته لأنه فوق القانون وفوق الدولة وفوق الشعب. ويبقى الحاكم الدكتاتوري على كرسي الحكم حتى موته، بل يعمل كل جهده قبل موته لتوريث كرسيه لأحد أبنائه. أما في دولة المؤسسات، فالشعب يختار حاكمه لفترة محددة، ويجدد له إذا أراد أو يأتي بغيره بكل سهولة لأن الدولة ومصيرها غير مرهونة بشخص واحد ولا يستطيع أن يورث الحكم لعائلته وأبناءه. آن الأوان للتغيير في العالم العربي، في الفكر قبل أي شيء، وقبل أن نهرع للثورات بدون رؤية واضحة وبدون خطة وخطى تدريجية تقودنا إلى دولة المؤسسات؛ إلى دولة الديمقراطية، إلى دولة حكم الشعب بالشعب. فلا نريد أبطال جدد لأن مخزون قصصنا امتلأ بالأبطال. وما نريده هو عهداً جديداً يختلف عن الماضي لأن الزمن يتغير والظروف تتطور ولا بدّ للعمل من أجل مستقبل أفضل.