يمكن الاستدلال على وجود هذه المعضلة داخل النصوص الإعلامية والثقافية والتوثيقية الفلسطينية، من خلال المنشورات المتاحة حول ذلك، سواء كانت كتبا أو تقارير أو مقابلات مع قادة سياسين أو صناع الرأي العام والصحفيين أو أدباء وكتاب أو أسرى محررين، أو دراسات منشورة على الإنترنت، وجميعها تسهم في تحريك الحقيقة من مكانها، وتسمح بحلول أخرى جديدة محلها، تتسبب بتسرب أوصاف ونعوت ومصطلحات وأرقام ووقائع وكلمات وألفاظ لا تعكس الحقيقة القانونية والسياسية للحالة الفلسطينية؛ وتمس مساً خطيراً بمكانتها القانونية والسياسية.
لماذا علينا الشروع بعملية تصويب شاملة للأخطاء؟
لأن تصويب الأخطاء ينقي النص من الفهم المشوش له، ويمنع حلول الخطأ محل الصواب، لصعوبة تعديل الخطأ فيما بعد، وتصويب الأخطاء يعزز صدقية السرد، وهذا يكفل لنا إيصال رسالتنا الإعلامية والثقافية بشكل سليم؛ وأقرب ما تكون لما نريد.
لأن الأخطاء تتسبب في إضافة أخطاء جديدة وغير متوقعة، وبقاء الأخطاء على حالها يفسد الخيال المحفز للابتكار والتجديد المأمول في مجال الاختصاص.
كما أن تصويب الأخطاء يسهم في مساعي تطوير الخطاب التحليلي المخصص لدراسة ظاهرة الأسرى الفلسطينيين والعرب، ووصف حالتهم بنص خال من الأخطاء قدر الإمكان.
كما يخدم المعرفة السليمة غير المشوشة أو الملوثة بالأخطاء، ويُسهم في ضبط إيقاع عملية التفكير بحد ذاتها، وإبعادها عن الفوضى المعرفية والشتات الذهني.
ويمكن القول أيضاً: بأن الضخ المتتالي للمعلومات غير الصحيحة، يعمق من شيوع مظاهر الأمية الكامنة داخل النصوص الملوثة، وذلك وفقاً لتعريف الأمم المتحدة الجديد لمفهوم (الأمية) الموسع، وهو:
أن الإنسان الأمي، ليس الذي لا يحسن القراءة ولا يجيد الكتابة؛ بل من يقرأ نصا ما ولا يتمكن من فهمه أو إعادة شرحه".
وهذه المشكلة من الممكن أن يتسبب فيها (نص) غير موثوق المصادر، (كما سنبين ذلك في هذه الدراسة) أو تم بناؤه بقليل من البحث والتركيز، ويعج بالمعلومات المغلوطة والمعرفة المشوهة، ما يتسبب بتظليل القارىء وبلبلة تركيزه.
ولمجابهة هذا الوضع ينبغي لوسائل الإعلام المتعددة، أن تتصدر حملة التصويب المستمرة، وذلك من خلال مدخلين اثنين، وهما:
الأول: أن تتوخى تلك الوسائل التدقيق المسبق (للتواريخ والأرقام والأسماء والوقائع والمصطلحات) والتأكد من سلامة وصحة المعلومات التاريخية التي يتم عرضها قبل عرضها، ومراعاة قوة حضور اللغة وسلامة لفظ وكتابة المصطلحات والمفردات، بما في ذلك الاستخدام الصارم لعلامات الترقيم، وعدم التراخي في ذلك لأنها جزء أصيل من عملية الكتابة.
الثاني: الحث التلقائي الكامن في النص المعد يومياً، لأنه سيسهم في تصويب منتج ومنظم للأخطاء الشائعة، بعد عرض بديلها الموثوق.
ملخص الدراسة
تنطوي هذه الدراسة على دعوة لإطلاق عملية تصويب مستدامة تتطلع لإنتاج نص علمي أمين وعادل؛ لأن تقدم الأمم يقاس بمدى امتلاكها للمعرفة المبنية على المعلومات الصحيحة، وهي معلومات ستتاح بالضرورة للجميع بعد إنتاجها، لهذا السبب يجب أن يقترن ضخ المعرفة بقيم عديدة منها (الأمانة العلمية والصدق وتحري الحقيقة).
لأن الآخرين سيعتمدون على ما وصلت إليه دراسات وأبحاث ومنتجات المؤسسات المتخصصة، وإلا فإن الباحث الهاوي أو نصف المتعلم أو الأمي، سيتسبب بجر الأجيال إلى طريق غير الذي عقدوا العزم على المضي فيه، عندها سيصبح من الصعب إصلاح الأخطاء التي ستنزلق بمقاطع السرد الفلسطيني إلى وادٍ سحيق.
إلى ذلك انعقد الرأي، على المضي قدماً بعملية تصويب مستدامة، تتطلع لإنتاج نص علمي أمين وعادل، والتصدي المنظم لصناع المعلومات الملوثة والمشوشة للذهن والمسيئة للهوية، لماذا ؟؟
لأن قيمة المعرفة الوطنية والإنسانية كامنة فيها وتزيد قيمتها كلما زاد استخدامها من قبل الأجيال المتعاقبة، لهذا من المهم أن لا تشوب عملية إنتاجها وترويجها ونقلها وترجمتها أي شائبة؛ الأمر الذي يستعجل مساعي التصدي لظواهر الفقاعات الإعلامية التي تتصدر المشهد الإعلامي؛ كثيرة اللغو عديمة التدقيق بما تقول؛ لوضع حد لعدم اكتراثهم بالمعرفة المدققة، وعدم تسليمهم بأن عدم حيازتها خطر، وأن الرغبة عن المعرفة خطر أكبر.
نماذج من المفردات والجمل والمفاهيم المراد تصويبها
1- استخدام مصطلح (انتفاضة الحجارة) أو (الانتفاضة الوطنية الكبرى عام 1987م) بدل مصطلح الانتفاضة الأولى، لأن الانتفاضة الأولى في التاريخ الفلسطيني كانت ضد الاستعمار الانجليزي والاستيطان اليهودي؛ وهي انتفاضة القدس الأولى أو ما عُرِفَ تاريخيًّا بانتفاضةِ موسمِ النّبي موسى التي بدأت أحداثها يوم 4 نيسان 1920م.
2- وصف انتفاضة الأقصى عام 2000م بالانتفاضة الثانية، وهذا الخطأ مبني على اعتبار انتفاضة عام 1987م بالانتفاضة الأولى.
خلاصة البندين (الأول والثاني)
إن منح الهبات والانتفاضة الشعبية أرقاما بهذه الطريقة يلحق ضراراً بليغا بمحتويات سفر الكفاح الوطني، لأنه يسقط من تعداده غير انتفاضة وهبة شعبية؛ على سبيل المثال بين انتفاضة الحجارة عام 1987م وانتفاضة الأقصى عام 2000م اندلعت انتفاضة عظيمة عرفت بهبة النفق عام 1996م، وهي لا تحمل رقماً مثل التي قبلها وبعدها، ما يعرضها لخطر الحذف، لذا فإن الانتفاضات والهبات الشعبية تستمد أسماءها من ذاتها ومن أسباب اندلاعها.
3- استخدام جملة "اعتقل الأسير الفلاني ... على خلفية أمنية" وهذا تعبير إسرائيلي تام، هدفه ترسيم ملامح الجرم الذي ارتكبه هذا الأسير أو ذاك، استخدامه من قبل الرسميين الفلسطينيين ومعهم وسائل الإعلام ينطوي على خطأ كبير، لماذا؟
لأن الأسير الفلسطيني تم أسره أو اعتقاله من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي بسبب مقاومته المشروعة لوجود ذلك الجيش غير الشرعي، وليس لأنه أخل بالنظام الأمني والعسكري الطبيعي الذي فرضته سلطة (ما).
4- استخدام جملة (إطلاق سراح الأسير الفلاني من السجون الإسرائيلية) وهذا التعبير غير صحيح لوصف عملية تحرر الأسرى من الأسر، ويمكن القول: (تحرر الأسير الفلاني من المعتقلات الإسرائيلية) لأن هذا يكمل انطباق مفهوم الأسر وكتم الحرية على الأسير أو المعتقل الذي تحرر نتيجة انتهاء فترة حكمه، أو نتاج تحريره بوساطة عمليات التبادل.
5- استخدام مصطلحي (معتقل ومعتقلات) بدل مصطلحي (سجن وسجون) عند الإشارة للأماكن التي يحتجز فيها الأسرى الفلسطينيون والعرب والأسيرات.
لأن المعتقل هو:
" المكان الذي يحتجز فيه الأسير الفلسطيني، ويسمى بلغة مصلحة المعتقلات الإسرائيلية (بيت سوهر- בֵית-סוהָר)، والمعتقل يختلف عن (السجن) اختلافاً جوهرياً وقانونياً كمكان لحجز الإنسان وكتم حريته، وذلك يتحدد تبعاً لمسبب وجود هذا الإنسان في مكان حجزه، فالمعتقل يكتسب اسمه وصفته من هوية الناس المتواجدين فيه، فإذا كانوا مناضلين ومقاتلين وجنوداً نظاميين فهم أسرى حرب، ومكان احتجازهم يسمى معتقلا وليس سجناً، وهذا الأمر ينطبق على الأسرى الفلسطينيين كافة".
والأسير:
"هو المأخوذ في الحرب. وجمعها أُسَراء، وأُسارَى، وأسْرَى، وفقاً لمعجم لسان العرب، وبالعبرية تلفظ كما هي في العربية (אָסיר: وتعني سجين أو أسير أو معتقل) والأسير العربي أو الفلسطيني هو: كل عربي أو فلسطيني تم اعتقاله من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948م إلى الآن".
أو :
" المحارب أو المقاتل الذي يحمل السلاح جهراً وعلناً ضد الدولة المعتدية على وطنه، وعند إلقاء القبض عليه متلبساً أو مشتبهاً، سواء كان جندياً نظامياً أو مقاتلاً في تشكيل عصابي مسلح، فلا يجوز التحقيق معه أو محاكمته أو نقله إلى أراضي الدولة القائمة بالاحتلال؛ لأنه يحمل صفة أسير حرب Prisoners of War وهذا ما ينطبق على الأسرى الفلسطينيين والعرب كافة".
6- التميز بين نوعين من (الأسرى) وهما:
النوع الأول:
المقاتلون الذين يحملون السلاح، ونفذوا عمليات عسكرية أو شبه عسكرية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم قُدموا للمحاكمة العسكرية الإسرائيلية - رغم عدم شرعيتها - وحكم عليهم بمدة محددة، فهولاء أسرى حرب نظراً لتأييد القانون الدولي لحقهم في مقاومة الاحتلال الأجنبي لبلدهم.
النوع الثاني:
المعتقلون المدنيون، الذين عَرفت هويتهم وحددت صفاتهم اتفاقية جنيف الثالثة، ومنهم المعتقلون الإداريون ومنهم المحتجزون لأسباب لها علاقة بمقاومة المحتل مقاومة سليمة كالامتناع عن دفع الضرائب أو التصدي للمستوطنين أو العمال الذين يتم اعتقالهم خلال محاولاتهم عبور الحدود بين منطقتي (1967م و 1948م) المحتلتين بحثاً عن عمل، وكل من تم اعتقاله لمشاركته بأي نوع من أنواع التمرد والعصيان المدني.
7- استخدام جملة (الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة) كوصف موحد لظاهرة الأسرى الفلسطينيين أينما وجب استخدامها.
8- لفظ الأسماء العبرية، بالعربية كما هي (بالعبرية) وعكس ذلك من الممكن أن يتسبب بلفظ كلمات بديلة للكلمة الأصلية، مثال على ذلك اسم معتقل (ريمون)، حيث تتم كتابته من قبل العديد من المراكز المعنية بموضوع الأسرى على النحو التالي: (رامون، رمون) وهذا يتسبب بنقل موقع المعتقل - في ذهن القارئ- من صحراء النقب إلى جوار بلدة (رمون) قضاء رام الله، وسيحدث ذلك التباسات لدى المتلقي الفلسطيني في الداخل والمهجر، والتسبب في عملية توثيق مغايرة للواقع والحقيقة.
9- استخدام كلمتي (الحواجز العسكرية) بدلاً من كلمة (المعبر)، عند الإشارة للأماكن التي يستخدمها العمال للوصول لأماكن عملهم والعودة منها.
لأن تلك (الحواجز) مقامة داخل الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة عام 1967م، وليس على امتداد خط وقف إطلاق النار عام 1967م (الخط الأخضر)، الذي يشكل حدود دولة فلسطين التي تنادي بها منظمة التحرير الفلسطينية وقرارات الشرعية الدولية، فالحواجز الحالية (المعابر) تجسد انتهاكا صريحا لقرارات الشرعية الدولية، واعتداء عسكريا مسلحا؛ شأنها في ذلك شأن المستعمرات.
10- وصف الأراضي العربية المحتلة عام 1948م، بــ (خلف الخط الأخضر) كمصطلح واحد، بدلاً لكلمتي (الخط الأخضر)، سيما إنه لا يمكن واقعياً العمل داخل أي (خط) سواء كان وهمياً أو فعلياً، ولكن يمكن العمل أمامه أو خلفه أو على جانبيه، لهذا يفضل القول: خلف الخط الأخضر أو (سوق العمل الإسرائيلي) أو الداخل الفلسطيني المحتل.
11- تجنب وصف المحكمة الإسرائيلية العليا بمحكمة العدل العليا، وذلك لسببين:
الأول: لأنها أبعد ما تكون عن العدل، ووظيفتها الوحيدة إلباس قرارات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، والجيش والمخابرات والمستوطنين الإسرائيليين، اللبوس القانونية التي تلزمهم لستر جرائمهم.
والثاني: لأن اسمها الإسرائيلي الرسمي (المحكمة العليا).
خلاصة
إن تقدم الأمم يقاس بمدى امتلاكها للمعرفة المبنية على المعلومات الصحيحة، وهي معلومات ستتاح بالضرورة للجميع بعد إنتاجها، لهذا السبب يجب أن يقترن ضخ المعرفة بقيم عديدة منها (الأمانة العلمية والصدق) لأن الآخرين سيبنون على ما وصلت إليه دراسات وأبحاث المؤسسات المتخصصة، وإلا فإن الباحث الهاوي أو نصف المتعلم أو الأمي، سيتسبب بجر الأجيال إلى طريق غير الذي عقدوا العزم على المضي فيه، عندها سيصبح من الصعب إصلاح الأخطاء المروعة التي ستشوه هويتنا في نهاية المطاف.
لأن قيمة المعرفة الوطنية والإنسانية كامنة فيها وتزيد قيمتها كلما زاد استخدامها من قبل الأجيال المتعاقبة، لهذا من المهم أن لا تشوب عملية إنتاجها وترويجها ونقلها وترجمتها أي شائبة؛ الأمر الذي يستعجل مساعي التصدي لظواهر الفقاعات الإعلامية التي تتصدر المشهد الإعلامي؛ كثيرة اللغو عديمة التدقيق بما تقول.
إذن، هي دعوة للتصدي للخطر الكامن في النص المشوه، المبني على معلومات مغلوطة ومزيفة للمعرفة؛ لتفادي خطره المستقبلي الذي يهدد سلامة النص الثقافي والتاريخي الجمعي للأمة.
(*) كاتب ومؤرخ فلسطيني