كثيرا ما نسمع بهذا المثل المؤلف من كلمتين، وهو يعني، بأن تعالج المشكلة من نفس عناصرها أو كما يقال "داويها بالتي هي داء" ولكن، بشدة أقصى وأكثر. والمثل هذا يذكرنا بما جرى في مدينة أوديسا الأوكرانية، التي كانت قبل 74 عاما، سوفيتية.
ففي الرابع من شباط من العام الحالي، قام عدد من المواطنين الأوكرانيين في مدينة أوديسا المطلة على البحر الأسود، بإزالة لوحة من حائط مبنى رقم 69، شارع نوفو- سيلكو، حملت في أعلاها تمثالا نصفيا من المرمر، كتب في أسفلها، "من 3 حزيران 1946 وحتى 4 شباط 1948، عمل في هذا المبنى مارشال الاتحاد السوفيتي وبطلها جورجي جوكوف".
والحقيقة أن ذاك الثالث من حزيران، كان يوما تاريخيا للمارشال! ولمدينة أوديسا أيضا، التي لم ولن تنساه مدى الحياة. فقد ظلت أوديسا تخضع طيلة سنوات قبل وصول جوكوف إليها، لحكم العصابات من القتلة والمجرمين والمهربين والفارين من وجه العدالة، وكانت مدينة متمردة وعصية على الدولة السوفيتية التي انشغلت بحرب عالمية أودت بحياة أكثر من 20 مليون إنسان من مواطنيها. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية يوم 9 أيار 1945، وتعيين قائد الجيوش السوفيتية المارشال جوكوف، حاكما عسكريا لبرلين وللطرف الشرقي من ألمانيا، صار اسم الرجل، بعد أن أُطلق عليه ستالين، لقب "مارشال النصر"، هو الاسم الأكثر شيوعا في البلاد بعد اسم ديكتاتورها، وبدأ الجميع يقولون بأنه الرجل "الثاني" وبأنه خليفة ستالين. ثم جاء أمر ستالين الذي رفع بمقام جوكوف عاليا حتى السماء، أمام القيادات الحزبية والعسكرية في البلاد، بأن يكون جوكوف هو قائد العرض العسكري الكبير الذي سيقام في الساحة الحمراء يوم 23 حزيران بمناسبة هذا النصر التاريخي. ومع قيام مارشال النصر، باستعراض الجيوش من على حصانه الأبيض في الساحة الحمراء، اكتمل المجد الشخصي للرجل دون أن يعلم الثمن الذي سيدفعه لاحقا مقابل ذلك.
ففي بداية شهر أيار 1946، ومع اعتقال قائد سلاح الطيران السوفيتي، والصديق المقرب لجوكوف، فهم الرجل أن حاشية الزعيم قد بدأت تحيك المؤامرات ضده وبأنه هو المستهدف. وجاء التسجيل الصوتي للمارشال الذي قدمه وزير الأمن الداخلي لستالين، يقول فيه جوكوف لزوجته، بأنه هو من وضع الخطط العسكرية وصنع النصر، وليس ستالين "الذي لا يفهم في العسكرية شيئا"!
وفي نهاية أيار، تم استدعاء الرجل على وجه السرعة من برلين، ومجابهته بأدلة ثابتة حول إرساله عربة قطار محملة ب 85 صندوقا من الأثاث والهدايا إلى عائلته في موسكو، ولم ينكر الرجل ذلك وإن كانت تعليلاته آنذاك لم تؤخذ بتاتا في الحسبان. وفي بداية حزيران، وقف مارشال النصر في الكرملين أمام الجنراليسيوس ستالين (أعلى رتبة عسكرية في التاريخ حصل عليها نابليون بونابرت وجوزيف ستالين فقط)، الذي أعلن عن تنحية المارشال من جميع مناصبه وتعيينه قائدا عسكريا لمنطقة "أوديسا" المتمردة، وأُوكل للرجل مهمة إعادة النظام إلى المدينة بعد التزايد اليومي الهائل في عدد القتلى من المدنيين، وانتشار السرقات المسلحة على المحلات الحكومية ومخازن الدولة الغذائية، واقتحامات مسلحة للبنوك ومكاتب البريد، واختطاف الرجال واغتصاب النساء في الشوارع نهارا "وليس ليلا"، حتى صارت المدينة بعد غروب شمسها، للأشباح ورجال العصابات فقط. وازدادت قوة العصابات وكتائب الزعران بطشا وهنجعية، بعد أن صارت تقوم بهجماتها المسلحة على القرى الآمنة والمزارع الجماعية السوفيتية "السوفخوزات والكولخوزات" دون الانتظار حتى لحلول الظلام.
وازداد الطين بلة، بعد أن صارت العصابات التي كانت أشهرها، عصابة القطة السوداء، تترك خلفها رسما لقطة سوداء، قبل أن تبدأ باختيار ضحاياها وفرائسها من ضباط وجنود الجيش العائدين والمنهكين من الحرب، حتى أنه تم تسجيل 38 حالة قتل لعسكريين سوفييت في يوم واحد، وسط مدينة أوديسا.
وأُوكلت للمارشال مهمة "إعادة الأمن" إلى أوديسا، واُعطيت له كل الصلاحيات لتنفيذ ذلك. واختار الرجل فرقة من الرجال والنساء من أبطال الجيش السوفيتي والمحترفين في القتال لتنفيذ خطته. وتم استبدال الملابس العسكرية "لفرقة التطهير" بملابس مدنية يمكن إخفاء السلاح فيها دون أي ملاحظة، وتم توزيع السلاح والذخيرة على سكان القرى والبلدات والتعاونيات للدفاع عن أنفسهم، دون حساب.
ومع أن جوكوف لم يعلن أحكاما عرفية، أو أحكام طوارئ في مقاطعة ومدينة أوديسا، إلا أنه أعطى الأمر الصارم "لفرقة التطهير"، بالخروج والانتشار في الشوارع والأزقة وفي الحانات وفي البيوت للبحث عن "من يشتبه به" بأنه مجرم أو مغتصب أو لص أو قاطع طريق. وكان الأمر واضحا بمطاردة كل هؤلاء حتى النهاية، شريطة عدم جلب أي منهم حيا للتحقيق. وبدأ سكان المدينة يسمعون أصوات أعيرة الرصاص من هنا ومن هناك، وسرعان ما فهم الجميع أن صوت كل رصاصة تطلق، كان يعني وقوع مجرم، أو لص، أو قاتل على الأرض قتيلا. وخلال أيام قليلة لم تتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، بدأ الآلاف من المطلوبين يزحفون نحو ثكنات الجيش والشرطة على أيديهم وأرجلهم كما تزحف القطط إليك طلبا للطعام أو الأمان. وفجأة، توقفت غارات الزعران والمجرمين على كل القرى والبلدات القريبة وحتى البعيدة عن أوديسا، بعد أن تم إرسال من استسلم منهم، إلى معسكرات الاعتقال للعمل الأبدي الشاق. وهكذا عاد الأمن والأمان إلى البلاد خلال أيام معدودة بعد أن صار "الرطل برطلين".
ترى، هل ظل منا من يمارس مواء القطط، أم أن هناك الكثير من القطط السوداء التي ما زالت مختبئة في جحورها استعدادا ليوم المواء، بعد أن فشلنا في إرسالهم إلى معسكرات الاعتقالات؟