في إحدى زيارات المطران ايلاريون كبوجي مطران القدس في المنفى إلى سورية، إستقبلته من على سلم الطائرة، حيث كان متعباً، لكنه رفض أن يُظهر تعبه، لذلك توكأ علي إلى السيارة التي كانت بإنتظاره، ثم إلى قاعة الشرف.
سبق أن سافرت في حزيران 2005 إلى روما حاملاً رسالة من سماحة مفتي سورية الشيخ احمد حسون إلى سيادة المطران كبوجي، خاطبه فيها "الأخ المناضل" وقال فيها.... "أيها الرمز في زمن تضاءلت فيه الرموز حتى باتت نادرة" وعندما دعاه قال للمطران "نتمنى أن نراك قريبا بيننا، وأن تَقَبلَ أن نكون نحنُ ضيوفاً عندك" ....و "لأنه في زمن الصمت هذا، نفتخر أن يكون في صفوف أُمتنا، صوتك المدوّي في العالم، ينادي للحق والسلام العادل، ويغذي فينا روح الإباء" .
لم أرغب في النقاش معه حول مجيئهِ إلى سورية، وأنا الذي أعرف كيف أن الإسرائيلين لم يستطيعوا – برغم سجنه – أن يثنوه عن حملِ صليبه الذي أختاره بكل شجاعة، وهو الدفاع المستميت عن الشعب الفلسطيني.
ومضت الأشهر وكنت خلالها على اتصال مع "سيدنا" حتى علمت أخيرا بقدومه الى سورية، وإستقبلتهُ من على سلم الطائرة في مطار حلب، كان تعباً تماماً، وعند نزوله إلى قاعة الشرف كان أهله في انتظاره، كما قدِم المفتي العام للسلام عليه، وغادرا إلى دمشق على نفس الطائرة.
في دمشق، حيث كان له برنامج حافل من الاستقبالات والولائم التي أقيمت على شرفه، وأقام مجمع الشيخ الراحل أحمد كفتارو، حفلا بهذه المناسبة، وخابرني أخي الشيخ الدكتور صلاح كفتارو حول رغبته أن يحضر المطران كبوجي هذا الحفل وان يلقي كلمة بالحضور، قلت له سأحاول وإن كنت أعلم تماما عزوف المطران عن الكلام، وعندما أخبرتُ "سيدنا" بذلك قال لي "بشرط أن لا أَخطب، ولا تحاول أن تُحرجني، فأنا لن أتكلم".
قبل أن يدخل المطران كبوجي إلى مكان الإحتفال، قام بزيارة ضريح الشيخ الراحل أحمد كفتارو حيث أدى صلاة قصيرة، وتذكر اللقاء الذي جمعه بالراحل، ثم دخل إلى المسجد حيث قام الكثير من الحضور إحتراما لهذا المناضل، وبعد أن شقّ طريقه بين الجموع إلى مكان جلوسه، بدأ الحفل، وأنا لا أعرف كيف سأقوم بإقناع "سيدنا" بالكلام.
توجهت إلى أخي الشيخ الدكتور صلاح وقلت له: "إن المطران لا يريد الكلام، ولكنك بحنكتك تستطيع ثنيه، كأن تقول: أنه كان يود أن يكون للراحل الشيخ أحمد كفتارو كلمة، ولكن بما أن صديقه المطران كبوجي هنا، وهو بمثابة الوالد فقد يرغب في إكرامنا بالكلام".
وهكذا حدث، فما كان من المطران كبوجي إلا أن نظرَ إلي وكأنه يقول لقد كشفتُ مؤامرتكم أنت وصلاح.
لن أطيل عليكم ولكن سأنقل لكم بعضا مما قاله سيادة المطران كبوجي في مجمع كفتارو أثناء زيارته له.
قال أمام اكثر من ثلاثة آلاف شخص "حلوٌ وجميلٌ تعانق الصليب والهلال، إنما الأجمل والأجدى انصهارُ الإنجيل والقرآن في البوتقة الواحدة، بوتقة الإله الواحد وبوتقة التعاليم السماوية الواردة في الإنجيل والقرآن وفي ذلك قوتنا ومناعتنا"
"ليس الدين لقباً، به نتغنى ، ولا مجموعة عقائد بها نؤمن، ولا مؤسسة إليها ننتمي"
"الدين حياة، الدين عمل، أرني إيمانك، أرني دينك من حياتك"
"أنا ابن سورية، وعندما كنتُ في المدرسة، وقبل دخول الصف، كنا نقف ونُنشد، بلاد العرب أوطاني، وسورية علمتنا أن لا نتقوقع، أن نفتح قلوبنا كبيراً للعالم أجمع، وبخاصة لأمتنا العربية"
إلى أن وصل إلى موضوع نتداوله منذ أكثر من خمسين عاما ، حيث قال بوضوح يجب أن يعيه الكثر في المنطقة، قال: "على الإسرائيليين اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن يختاروا بين أمرين لا ثالث لهما، إمّا السلام وإما الاحتلال، أَما أن ينعما بالاثنين سوية، سلامٌ واحتلال فهذا من المحال".
"أما نحنُ فقرارنا مُتخذ،... نحن العرب - وبخاصة سورية – قرارنا نحن مُتخذ، نحن نُريد أن نعيش، والعيشُ ليس فقط أكلا وشرباً، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. الحياة الحقيقية هي الكرامة وعنوان الكرامة هو الوطن، ولذا نحن مصممون "سورياً" إما أن نعيش أحراراً كراماً في وطن سيد مستقل، وإما أن نموت كراماً دفاعاً عن حقنا في هذا الوطن، نعم للسلام، لا وألف لا، للاستسلام أيا كانت الظروف".
ووصل إلى قوله: "نحن لا نستجدي، نحن أصحاب حق، فلسطين أرضنا، ونحن ما نطالب به اليوم هو مُخجل، فعندما عَرضَ بورقيبة قيام دولة فلسطينية على 46 % من فلسطين، اعتُبِرَ خائناً ورُجمَ بالبندوره، ونحنُ اليومَ نقبلُ دولةً لفلسطين فقط في 22 % من فلسطين، وهذا مُخجل .... ومن هذه الـ 22 % أَخَذت إسرائيل وصادرت 40 % لِبناء المستوطنات، فما الذي بقي من 22 % من فلسطين المعطاة لنا ؟؟؟؟ ... لا شيء".
حتى كانت جملته "ولذا بودي ألا أسمع، عندما العرب يتكلمون عن حلٍ للقضية الفلسطينية في حدود 67 أن يقولوا حل عادل، حلٌ عادل؟؟؟؟؟ لا هذا ليس بالحقّ العادل هذا حقٌ باطل، هذا حلّ الممكن، هذا حل الوارد، هذا الحل المستطاع، أما الحل العادل فهو فلسطين كل فلسطين"
وهو إذ يستقرىء المستقبل يقول: "سيأتي اليوم، وقريبٌ إن شاء الله بعونه، تعالى، سوف نجتمع جميعاً – الأمة العربية كلها – في رحاب الجامع الأقصى وكنيسة القيامة، بينما الأجراس تقرع مهللة لعودتنا إلى وطننا، إلى فلسطيننا، إلى قدسنا، بينما المآذن تصدح، الله أكبر، الله أكبر، إنه السميع المجيب وعلى كل شيء قدير "
الآن عرفت لماذا هناك من كان يخاف عودتك سماحة المطران.
اللهم اشهد أني بلغت
مستشار مفتي سورية*