أخيراً، أعلن الرئيس محمود عباس، بجرأةٍ وبوضوح ما كان كل فلسطيني مخلص لقضيته يُريدُه؛ وهو أننا في حل من الاتفاقات الموقعة مع الاحتلال ومع راعيه الأمريكي. ومع هذا الإعلان الذي يلقى حفاوةً على المستوى الشعبي، وصمتاً حذرا على مستوى أصحاب رأس المال والتجار والاقتصادين، وتشكيكاً من قبل أصحاب النفوذ الملتقية مصالحهم مع مصالح الإسرائيلي، سيظهرُ السؤال الكبير: هل وصلنا إلى الأسوأ؟ الجواب هو: أن الأسوأ لم يأتِ بعد لأنه ليست لدينا إجاباتُ على تساؤلات عديدةٍ تتفرع من هذا السؤال الكبير من قبيل: ماذا سنفعل بعد حلِّنا من الاتفاقات، وما هي الترتيبات الواقعية على الأرض ما بعد خطاب الرئيس، وما هو مصير السلطة الفلسطينية، هل ستبقى موجودة تدير مهامها وهي من مخرجات أوسلو؟ ليكون السؤال الأضيقُ منها جميعاً: مَن سيُديرُ ماذا، ومن أين وكيف نبدأ من جديد؟
إن الفشل الأساسي، الذي وإن كانت أوسلو على عيوبها، كان يمكن أن يتحول إلى نجاح هو أنه كان لدى الفلسطيني فرصة لبناء نواة يمكن أن تتحول فيما بعد إلى مؤسسات قادرة على إدارة الواقع الفلسطيني من الداخل، وليس من الخارج عبر التواصل عن بعد. وهذه النواة أو الفضيلةُ الوحيدةُ لأوسلو كانت تحملُ سبل فشلها معها لأن القيادة الأولى للسلطة أدارت الواقع الفلسطيني الجديد بعقلية إدارة الفاكهاني، وبنموذجِ إدارةِ "حربي صرصور" للأمور المالية للمنظمة في تونس، فلا يُمكنك إدارةُ الداخلِ المحتل بعقلية الخارج أو بعقلية العائد المنتصر، وهو لم ينتصر ولم يكمل بعد طريق العودة. فهو أمرٌ لا يستقيمُ مع واقعٍ جديدٍ، غير مسبوقٍ دولياً، يخلط ما بين التحرر والثورة، والاستقرار والسلام في إناء واحدٍ هو أوسلو. كان أمام الفلسطينيين فرصة حقيقية، طوال سنوات أوسلو الماضية، أن تتمكن القيادة من بناء نموذج مؤسساتي مهم، لو أنه فعلاً تم الإخلاصُ لما كان يُقال في الكواليس وفي المكاتب المغلقة لمنظمة التحرير في تونس أثناء مفاوضات أوسلو، وهي أن أوسلو ستكون خطوة باتجاه تحرير بقية فلسطين.
أما وأننا خسرنا اليوم 30% أخرى من فلسطين، ويجري الحديث عما حذرنا منه سابقاً وقبل نحو عامين، من تقسيم السلطة الفلسطينية إلى أقاليم، أو إمارات، تديرُ عشائرُ الخليل إمارة الخليل، وعشائر جنين إمارة جنين، ضمن الأطر الحالية للسلطة التي سيتم إفراغها التدريجي مما تبقى منها، بحيث تبقى هياكلها ومؤسساتها قائمة لكنها تعملُ ضمن حدود وأقاليم مناطقية مقسمة ضمن الحدود الجغرافية الحالية للمحافظات، بينما تسيطر قوات الاحتلال على الممرات ما بين تلك الإمارات والأقاليم، فإن على القيادة أن تبدأ بالتفكير السريع بترتيبات جدية لما بعد خطاب الرئيس. ذلك أن البطء والتباطؤ في التفكير في القادم، وعدم وجود خطط عمل ومواجهة وصمود واضحة هو سبب تهلكة هذا الشعب.
ولأننا نعمل ونعيش ضمن سياقٍ وواقع محلي ودولي يفتقدُ فيه الفلسطيني للشرعية السياسية التي بإمكانها إدارة المرحلة المقبلة، فإن الحل يكمن في تجديد الشرعيات أولاً، ذلك أن أي غياب مفاجئ للرئيس عباس في هذا المرحلة، لا يعني الفوضى فقط، بل يعني أيضاً أننا سنكون أمام فراغٍ سيملؤه الاحتلال ومخطط تقسيم الضفة إلى أقاليم.
وبما أننا أمام واقع داخلي لا يسمح باستقالة الرئيس أو تنحيته من جهة، وأمام واقع دولي لا يسمحُ كذلك باستمراره في رئاسة السلطة دون أن يكون هنالك تفويضٌ شعبي يجدد شرعيته الانتخابية، فإن على الرئيس أن يُعلن عن برنامجٍ وطني لإدارة المرحلة المقبلة يكون أحد مكوناته الأساسية، إلغاء منصب رئيس السلطة الفلسطينية، والإعلان عن تشكيل مجلس رئاسي موسع (قد يكون برئاسته) يضم قيادات الفصائل وممثلين عن مؤسسات المجتمع المدني والفصائل غير المنضوية تحت منظمة التحرير، وممثلين عن الفئات الأقل حظا في المشاركة في عملية صناعة القرار: المرأة والشباب؛ وتكون مهمته الإعلان عن إنهاء الانقسام؛ ووضع الخطوط العريضة لعمل وطني لمواجهة قرارات الاحتلال، وإنشاء فرق ولجان فرعية على الأرض لتنفيذ قرارات هذا المجلس، والتي تتخذ بالإجماع، بحيث تتم رئاسة المجلس بشكل دوري من قبل أعضائه. على أن يقوم المجلس بالإعداد لانتخابات رئاسية وتشريعية، تضخ شرعيات جديدة في العمل الوطني.
من هناك نكون قد بدأنا بمواجهة الأسوأ الذي لم يأت بعد!