الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عتليتُ والبحرُ وأيمن| بقلم: عبد الله لحلوح

2020-05-29 01:00:59 PM
عتليتُ والبحرُ وأيمن| بقلم: عبد الله لحلوح
عبد الله لحلوح

 

 لم يكن الخبرُ عاديًّا، ولا مجازيًّا، ولَم يكن الوردُ طبيعيًّا في هدوئه، ولا الغناءُ على سجيِّتِه التي كُنّا تعوَّدْنا عليها في البلادِ، ولم يكنْ طبيعيًّا سوى ذاك اللاطبيعيّ، فالمياتِمُ والجنائزُ، وصوَرُ الأمواتِ، وروائح العزاء التي تزكم الأنوف، وأصواتُ النادبين والنادبات، النائحين والنائحات، كلها لها وقعٌ متشابهٌ، وإيقاعٌ مكرور، والطَّبيعةُ تعرفُ أنَّ هذه الطقوس طبيعيةٌ في حالاتٍ لا طبيعية، ولكنَّ الطَّبيعيّ الحقيقيّ الذي كان في حفلةِ الوداع، هو ذلك الصوتُ اللاطبيعيّ، إنَّه صوتُ الأمّ، وهي تقرَأ رقصَةَ الحياةِ على سُكونِ الموت، والدةُ الغريق، وأُمُّ الطريق، ومرضعةُ البدايات، تواجهُ أصعبَ النهايات، بِبَحَّةِ صوتِها الدافئ، وَبِقَلْبِها الهادئ، تُحَيّي شعبًا ثائرًا، وجسدًا مُسَجّى، وتبكي ابنَها ضاحكةً مستبشرةً، وتطلبُ من المُشيِّعين أن يكونوا هادئين، لأنَّ ابنها يحبُّ الهدوء. فأيَّةُ طبيعةٍ تلك التي زُرِعَتْ بِقَلْبِكِ وأنتِ تحتشدينَ أمواجًا من النارِ والغضب؟ وأيُّ هدوءٍ هذا الذي سيطفو على سطحٍ رفضَ أنْ يكون رؤوفًا بذلك الجسدِ الطَّرِيِّ الشاب؟

في وداعِ ابنِها أيمن، ترى في كلِّ الشبابِ أيمَنَها المسافر إلى البعيد، وقد ضَنَّ عليْها برقصةِ شموعِه الثلاثين، فرحلَ قبل أنْ يُتِّمَّها، ولكنَّه البحرُ يا أيمن.

"عتليتُ والبحرُ المُمدَّدُ حولَ خاصرةِ الرَّحيلِ، وقلْب حيفا والنَّهارُ الجائعُ الذبلانُ مِن وهجِ الظَّهيرةِ، والأغاني القاسية، والرَّقْصَةُ النَّشوى التي كانت ستعبرُ للبلادِ قَتَلْتَها يا بحرُ واخترتَ النِّهايَةَ، لم يكن ليريقَها ذاك الغريقُ بهذهِ الدَّوّامةِ، انتصرَ الظلامُ ولَم يَفُزْ، والموتُ لم يربَحْ ولَم يخسَرْ، ولمْ نربح سواكَ، وكانَ أيمنُ حظَّنا، فتسابَقت أمواجُ حيفا، والحياةُ كذاكَ أيضًا شبهُ أُغنِيَة، تعيشُ وربَّما ماتَ المُلَحنُ والمُغنّي قبلَ أنْ تمشي فعاشَتْ، وانتَشلناها ولَم نعثر عليها، ثمَّ طافتْ مثلَ أيمنَ في البحارِ، ولَم تعدْ إلّا ورودًا، فاغتسلْنا بالدموعِ لِكَيْ نُصلّي صامتين، وكانَ أيمنُ ما يكونُ البحرُ، لكنَّ الحياةَ تُحبُّ ألا نستمرَّ بها، وأن نبكي على الميلادِ، أو نبكي علينا أو عليها، لا يَهُمُّ، فماتَ أيمنُ وانتهى الحدثُ، احتفَلْنا. قالَ أيمنُ: واصِلِ الخَطْوَ، استمرّوا، واصلوا الرَّقْصَ.. التَّحَرُّكَ.. كلَّ شيءٍ. ماتَ أيمن.. عاش أيمن. أُمُّهُ الآنَ الحكاية".

لا أدري إذا ما قلتُ شعرًا وأنا أكتب عنك يا أيمن، فلقد كان القلمُ يرقصُ وهو يقرص الحروف لتهتزَّ، وكان جسدك الذي يتحرَّك من لندن إلى باريس إلى رام الله، ثمَّ إلى كفر ياسيف، كانَ يصرُخُ بالبحرِ غاضبًا، فاستجابَ له البحرُ الشعريُّ، وهو يرى أمَّكَ تلتفتُ إليكَ وتغنّي لك وحدها، وهي الجديرة بالبكاء، وربَّما اعترفَ الشبابُ بك وأنكرتْكَ الأمَّهاتُ، وأنكرتْكَ العادياتُ من السنين القاحلات، ولكنَّ أمّكَ اعترفتْ بك يا أيمن، وحضَّرَتْ لك زفافًا يليقُ بفارسٍ عائدٍ من المعركة، منتشيًا مزهوًّا تحت قوس النصر، هل سمعتها يا ولدي وهي تغنّي لك؟ هل رقصتَ لها داخلَ نعشكَ وهي تطلب من الأمهات والأخواتِ أن يردِّن معها؟ هل كان صوتُها الآنَ بهذا اللحنِ، هو ذاته الذي غنَّتْهُ لكَ وهيَ تُهَيِّئ لك إفطارًا صباحيًّا من جبال الكرمل؟

لقد قالت أمُّك إنَّكَ ابنُ ستين ربيعًا أيُّها الثلاثينيُّ العنيد، وأنَّكَ طُفتَ الدُّنيا بَحثًا عنك. فهل اعتذرْتَ لأمِّكَ يا فتى البحر؟