لا نهدف إلى إشاعة اليأس. هنالك "أطنان" من اليأس، على رأي محطات التلفزة الأمريكية، حين تصف الطقس المشمس، فتقول: "هنالك أطنان من الشمس". لكن معرفة الواقع مهمة، بل هي سلاح حيوي للوصول إلى القرار النضالي السليم. الغباء كما لاحظ فيلهم رايش وآخرون منذ زمن بعيد يخدم العدو مهما كانت النوايا سليمة. وللأسف فإن الغباء لا حد له. ربما يحاول بعض الأصدقاء أحياناً إقناعي أن "مجاهدي" داعش عملاء يحركهم المال. وقد يكون هذا صحيحاً في مستويات معينة، ولكن "الجهادي" الذي كان يفجر نفسه على امتداد ثلاث سنوات في مسجد "للكفرة" الشيعة، أو في جامعة علمانية "كافرة" إنما كان يعد نفسه في اللحظة والتو بقصور في الجنة، وأنهار من الخمرة يحيا على ضفافها في أحضان مئات الحوريات. إن اقتنع أي منا بذلك، فلن يتردد لحظة في تفجير نفسه في مساجد الشيعة والسنة والمعتزلة والأشعرية، ناهيك عن كنائس الأرثوذكس والكاثوليك.
الغباء أفضل خدمة نؤديها لعدونا. هل تريد الحركة الصهيونية أن تنكفئ إلى الداخل وتسمح بحق العودة؟ وبعد عشرين أو ثلاثين سنة على أبعد حد يعود المستوطنون البيض أقلية داخل فلسطين ناهيك عن كونهم شعرة سوداء في ظهر الخروف الأبيض على رأي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حاكم دولة الإمارات السابق؟ كلا لا تريد الحركة الصهيونية ذلك. ودعوني أتوسع فأسأل: لو كان الراحلان عرفات وحبش من قادة الحركة الصهيونية أو "إسرائيل" هل كانا سيوافقان على حق العودة القاضي بانكفاء المشروع؟ وهل كان سيوافق على ذلك محمود عباس أو محمد دحلان أو منير شفيق أو غسان كنفاني أو محمود درويش أو صلاح خلف أو وديع حداد أو نايف حواتمة أو....؟ الجواب بالطبع هو لا كبيرة، ثلاث أو أربع لاءات كبيرة.
فهل يسلك قادة "إسرائيل" الصهيوينة، دون خلق الله جميعاً، بمنطق "إنسانوي" يعاند مبادئ الواقعية السياسية من ميكيافيلي إلى كيسنجر إلى مورجنذاو؟ دعونا نستعرض بإيجاز مواقف هؤلاء المعلنة خصوصاً بعد أن أيقنوا أن "التفكيك" الذي يعيشه "الغرب" في مستوى النظرية الدريدية يعيشه العرب في مستوى الواقع السياسي والديني والاجتماعي، وفي صميم القلب: سوريا، والعراق، والسودان، وليبيا، واليمن، وربما مصر والبحرين والجزائر وغيرها.
أوضح نتانياهو مليون مرة في العشرين سنة الأخيرة أنه "لن يتهيأ أي وضع يقود إلى تخلي "إسرائيل" عن السيطرة الأمنية على المنطقة الواقعة غربي نهر الأردن." وهذا ببساطة يعني أن الكلام الذي يدور حول السلام وحول إقامة دولة فلسطينية مستقلة بشكل ما كان لغواً. فالضفة وغور الأردن لا يمكن بالوضوح كله أن تخرج عن السيطرة الأمنية للدولة العبرية. لكن إخوتنا الفلسطينيين الذين استطابوا شارات الحكم ولذة السيطرة وامتيازاتها، ظلوا يتظاهرون بأن نتانياهو لا يشكل إلا أقلية متطرفة في الجسم السياسي الإسرائيلي الجاهز لإعطائنا دولة "مستقلة" وإن تكن عاصمتها أبوديس.
لكن مهما طال بقاء الثلج فوق المرج، فلا بد له أن يذوب. وقد ذاب الثلج وكشف عن موقف إسرائيلي موحد فحواه أن فلسطين من البحر إلى النهر هي أرض إسرائيلية، وأن الممكن "المعقول" هو أن لا تسيطر إسرائيل على نحو مباشر على السكان وتتركهم ليديروا شؤون حياتهم اليومية عن طريق السلطة التي ولدت في اوسلو أو أية سلطة أخرى إن اتضح أن بقايا منظمة التحرير لا تستطيع القيام بهذا الدور "التاريخي" الممهد لانقراض فلسطين التام.
طوال السنوات الماضية ظلوا يقولون لنا ذلك بألف طريقة وطريقة. لكنهم كانوا يراوغون ويحملون الكلام أكثر من وجه أو احتمال. وحده زئيف اكلين وزير التعليم والموارد المائية في حكومة نتانياهو/غانتس عن حزب الليكود كان جريئاً ومخلصاً طوال الوقت. لذلك أوضح منذ سنين: "علينا أن نوسع المستوطنات ونفرض السيادة على أكبر مساحة ممكنة من الضفة، بحيث تصبح في غالبيتها "إسرائيلية" ويهودية، ولا مكان لدولة فلسطينية على الإطلاق. أما السؤال حول السكان الفلسطينيين فلا داعي لإجابته الآن، لكنه سوف يجاب لاحقاً، وما يبدو الآن صعباً سيصبح سهلاً فيما بعد."
موقف آكلين هو الذي تتبناه اليوم إسرائيل كلها ببنديه الواضحين: الأرض كلها إسرائيلية، والسكان الفلسطينيون المقيمون عليها ستحل "مشكلة" وجودهم بحسب ما يسمح "التاريخ". بالطبع الترحيل بهدوء هو أفضل الحلول.
هذا هو إذن. لا دولة فلسطينية، ولا استثناء لسيادة إسرائيل على أي شبر من الضفة، ولا حد لتمدد الاستيطان الذي سيصطدم بوجود السكان الفلسسطينيين مما يحتك ضرورة أختفائهم بشكل أو بآخر. وفي رأينا المتواضع أنه لا حاجة لقادة الصهيونية بإرهاق أنفسهم بتصور السيناريوهات، إذ لا بد أن الحلول ستأتي من تلقاء نفسها.
في عالم رأسمالي في الشمال، يمارس التفكيك اللغوي في بلاده، بينما يزداد رأس المال تمركزاً في مستوى البلد الواحد وفي مستوى المركز الكوني كله، يقوم راسمالنا العربي بتفكيك الدولة القطرية إلى ما لا نهاية. تصغر "الوقائع" السياسية العربية إلى مستوى القبائل والإثنيات والطوائف، وتكبر "إسرائيل" كثيراً لتصبح مركز "الشرق الأوسط" متحالفة مع الخليج النفطي، ومصر والمغرب والسودان الذي دخل العصر الإسرائيلي وعصر كورونا في لحظة واحدة. وكان من سخرية القدر أن عرابة العشق السوداني مستشارة البرهان قد ماتت بالكورونا على الرغم من جهد الوفد الطبي الصهيوني.
إسرائيل تعملقت كثيراً حتى خطب ودها الداني والقاصي من الجيران لأنها أصبحت في موقع من يرفع ويخفض ويعز ويذل. أفلا يحق لها بعد ذلك كله أن تفكر في أن لحظة القطاف النهائي باستكمال التطهير العرقي لفلسطين قد أصبحت في نطاق الممكن التاريخي؟
وقد قلنا الأشياء الكريهة كلها أو جلها نقول دون الرغبة المصطنعة في افتعال وجود الأمل: هناك جسم سياسي ما يزال يرسل بعضاً من إشارات الأمل اسمه محور المقاومة. الحق يقال إنني لم أحس بالطعم الحزين للكلمة مثلما أحسه اليوم: المقاومة. بإمكانيات متواضعة تماماً، تقف اليوم في وجه تيار جارف من الغباء السياسي، والجموع المعبأة على نحو أعمى بالفكر الطائفي الذي يقتل دون أن يلوي على شيء، ولا يحس شيئاً من الحيرة تجاه التحالف مع "إسرائيل". ربما أن فتوى –وما أكثر الفتاوى العجيبة- من السعودية المفتونة بايفانكا وزوجة أبيها تجعل "إسرائيل" حليفاً شرعياً مقبولاً في مواجهة خطر الرافضة ونظام العلويين مثلما يسمى النظام السوري. المقاومة تقف اليوم في وجه تيار يناصر الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان، وقضايا المرأة ويتغذى من أموال السادة: الاتحاد الأوروبي، وكندا فند، وفورد فونديشن، ومؤسسات فرنسية، وألمانية، وسويدية، وانجليزية...الخ تسعى كلها إلى نشر الحب والفضيلة والإخاء وما أسماه الراحل العظيم ناجي العلي "make love not war".
هناك تركيز للجهود ينصب على محاربة "الإرهاب" الذي أصبح له معنى واحد بالطبع هو مقاومة الصهيونية لأن ما عدا ذلك حرب شعبية ضد الطغاة من اجل الحرية والديمقراطية التي تقودها أوكار "الثنك تانك" الأمريكي وأدوات الولايات المتحدة في الخليج وتركيا والسعودية ومصر وغيرها. لذلك يشعر أحدنا بأن المقاومة تقبض على الجمر في زمن تخلى الناس عن طريق الحق ليلتحقوا بطرق الممول التي لا حصر لها. المقاومة تحارب وحدها دولاً صديقة وحليفة للصهيونية، وسيلاً لا ينتهي من المجاهدين، يمول ويدرب ويخطط له في مستويات الاستعمار الكوني العليا، والمقاومة تبدع كل يوم أشكالاً وأشكال من العبقرية الثورية. لكن هجمة الاستعمار الكوني ضخمة بشكل يعسر تخيله على المواطن العادي. ولأن "إسرائيل" تخترق المشرق والمغرب العربي في زمن الجهاد التركي/القطري والسعودي/الإسرائيلي واليسار الممول ذي النكهة الليبرالية الفجة، يحق لها أن تتخيل، وتفكر وتخطط للتطهير العرقي الكامل. وعلينا أن نتذكر أننا نعيش زمن قائد الوهابية والمسيانية الأشقر دونالد ترامب.
لكن الواقع يظل منفتحاً على الاحتمالات: وإن تمكن الفلسطيني من اجتراح معجزة جديدة فقد يفتح الباب لإخوته العرب ليعودوا إلى زمن المعجزات.
حاشية: طلب رئيس وزراء السلطة د. اشتية من الفلسطينيين فرداً فرداً أن يفكر كل منهم في كيفية مقاومة المشاريع الصهيونية. لا أعرف إن كنت قد فهمت الرجل حقاً، ولا أعرف إن كان جاداً أم هازلاً.