الحدث فكر ونقد
من الواضح أن وضعية استثنائية تستدعي مقاييس مختلفة، وتقتضي ظرفية مستعجلة تدابير ظرفية.
رغم ذلك، من حقنا التساؤل إن كان مفهوم حالة الطوارئ لا يؤدي في نفس الوقت نحو تصلب هذا الاستثنائي بحيث يلزم بالضرورة تعليق القانون العام، ثم انطوائه الضمني على مكون استبدادي لا يلتفت إليه مفهوم الطارئ.
حقا فرضت الدولة العزل الصحي كي تحاصر انتشار العدوى، لكن لا ينبغي بالمطلق لهذا المقياس (كان بوسعنا تجنب وسيلة هذا الحل أو اختصاره لو توفرت لدينا فعليا أعداد كافية من الاختبارات الطبية، والأقنعة الواقية وكذا إمكانيات الاستشفاء) التحول إلى معسكر اعتقال ثم يظل فقط ظرفية عابرة. أيضا، لا يمكن النظر إلى فرض ارتداء كمامات واقية، وتعميمه، من زاوية كونه مؤشرا على التوتاليتارية.
مع ذلك، تخلص قانون حالة الطوارئ الصحية، باسم الأساسي، من النقاشات القانونية مثل السجالات البرلمانية. وصفات غيَّرَت القانون الجنائي بتقييد علانية المرافعات القانونية ثم تمديد الاحتجاز المؤقت والإقامة الجبرية.
هل يستوجب حظر الخروج على الخاضعين للحجر الصحي، السجن في حالة تكرار المخالفة… ألا يمكنه أن يؤدي صوب تجاوزات متعددة، تطال أكثرها جسامة الأفراد الذين لا مأوى لهم، واللاجئين، بحيث يعاملون بقسوة وسط أزقة خالية من أي شاهد؟.
من بين تلك التجاوزات، تغريم أشخاص غادروا منازلهم لقضاء مآرب ضرورية. وأخيرا، هل تقتضي ضرورة مراقبة المغادرين بكيفية لا قانونية الاستعانة بطائرات الدرون (بدون طيار)؟.
غير أنه أبعد من واقعة الوباء، ليس أمامنا سوى إرهاف السمع إزاء الخوف الذي أفصح عنه بهذا الصدد حقوقيون وقانونيون فيما يتعلق بعدوى قانونية، تدوم بعد فترة الحالة الوبائية.
يلزمنا من أجل تحديد الخطر، أن نتعرض لهذا الأمر بالعودة إلى المنطلق ثم الذهاب نحو المصب، رغم عدم يقينية معطيات الأخير.
المنطلق، بمعنى ما قبل الفيروس، إذا اكتفينا بالنظر إلى ذلك من وجهة نظر وطنية، سيتضح لنا بأن قانون الطوارئ الذي صوت عليه خلال حرب الجزائر سنة 1955، وطرح ثانية إبان هجمات الجهاديين سنة 2015، ثم تحييده من جديد خارج كل سياق حربي، بل مجازيا.
أمكننا أيضا، معاينة طيلة أيام السنتين السابقتين عن لحظة وباء كورونا، أطوار تظاهرات أصحاب السترات الصفراء وكذا حين الإعلان عن إصلاحات تهم أنظمة التقاعد، ثم صدور ردات فعل، فاقمت الأساليب والوسائل المستعملة ضد المتظاهرين.
أيضا، بالعودة إلى المنطلق، فقد تطورت خلال العقود الأخيرة الإعلاميات، وتوسع مجال الذكاء الاصطناعي الذي أتاح إمكانية معالجة ركام هائل من المعطيات، مما أتاح سبلا مكنت سواء منظومة جافا (Gafa ) كي تحيط بمختلف عناصر الحياة الشخصية لكل فرد، ولكن أيضا الأقمار الصناعية من أعلى الأعالي ثم طائرات الدرون المحلقة في الأسفل جدا، قصد مراقبة مختلف السلوكات الفردية. معطيات تضبط كليا الكائن الإنساني من خلال أفكاره المعبر عنها، وأفعاله، بما في ذلك سرية وقداسة حياته الشخصية، بحيث صارت حينئذ مكشوفة للعيان.
يكفي ذكر، أن أحاديثنا وما نكتبه، تحت إشراف منظومة جافا، عبر الهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية، تفوض أسرارها إلى الدول، وبوسع الأخيرة أن تترصد، حركات الأفراد، بواسطة طائرات بدون طيار، والأقمار الاصطناعية، والفيديوهات، ثم تحكم في جوانب الحياة اليومية، بحيث صار منذئذ مختلف ما يندرج ضمن الخصوصي عاريا. في نفس الوقت، تضاعفت أكثر فأكثر بالنسبة للمواطنين، مستويات غموض جل المكونات المتعلقة بمجال السلطة، إما بتقليص أو إلغاء كل ضبط برلماني أو قانوني.
أصبحت الصين ''نموذجية'' وهي تدمج ضمن نظامها الشمولي سلفا، مختلف أشكال التفتيش والمراقبة. لقد فتحت خلال القرن العشرين ثغرة بين طيات نظامها التوتاليتاري، حينما سمحت لنفسها بالاندفاع خلف الربح الرأسمالي. وأمكنها أن تغلقها ثانية بتبنيها عناصر نظام شمولي ينتمي للقرن العشرين، يستند على الإلكتروني والإعلامي، دون أن تمحو مع ذلك النظام القديم الذي ينهل من الوشاية، التجسس، الإبلاغ، الاعتقالات التعسفية، الرقابة ثم توظيف البوابين.
مرة أخرى، بالعودة إلى المنطلق، إذا استعدنا تطور الكون، خلال العشرين سنة الأخيرة، فقد داهمتنا أزمة عامة للديمقراطيات، مما أفقدها حيوية الأفكار السياسية، السياسة باعتبارها قاطرة للاقتصاد. ثم، تلك الأيديولوجية الليبرالية الجديدة، التي اختزلت دولة/ الرفاهية إلى أضعف مبرراتها، وأطلقت العنان في المقابل للدولة /الشرطي.
لاحظنا، ظهور وترسخ دول شمولية جديدة، امتدت إلى جميع القارات، بما في ذلك أوروبا. مثلما رأينا أيضا بالنسبة لكثير من البلدان، أن أشخاصا ديماغوجيين غريبين ومخيفين، وصلوا إلى مراكز السلطة.
لننتقل الآن، إلى المصب، يعني ما بعد الفيروس. يمكننا التأهب من أزمة اقتصادية عالمية هائلة، وبأنها تسرع كما الشأن عندما وقعت مثيلتها سنة 1929، صوب أزمة لديمقراطيات بصدد الانهيار، وتمنح الوجود لدول سلطوية جديدة، ثم تتحول هذه الدول السلطوية الجديدة، على إثر ذلك، إلى أخرى توتاليتارية جديدة، تتوفر على مختلف تقنيات الضبط والمراقبة، متاحة أكثر فأكثر وفي غاية التطور.
هنا يكمن الخطر الحقيقي، الذي يهم فرنسا بدورها. بحيث تتربص بها أخطار مضاعفات أزمة اقتصادية عالمية، وستكابد في كل الأحوال اضطرابات سياسية واجتماعية، بقدر ما كشف الوباء عن سياسة اقتصادية خائرة القوى بالنسبة للمنظومة الطبية، وكذا عجز الدولة.
يتهدد مستقبل دولة، تطور تيار رجعي هائل، لاحظناه أصلا في قسم كبير من الكون.
من أجل عرقلة تقدم هذه الحركات المهدِّدة، فيلزم الدفع نحو تشجيع القيام بمراجعة جديدة وكذا إعادة تشكيل الفكر السياسي، والتئام حول الفوري لكل الهيئات الديمقراطية المتواجدة هنا وهناك، ثم دعم تطور جل القوى المنبثقة من سياق وباء كورونا.
*مرجع المقالة :
: le club des juristes : 25 MAI 2020 . Edgar Morin