في جوفِ القدسِ، بل في أعمقِ أحشاء تاريخها، وعلى حجارةِ جُدرانِها التي تَشتعلُ الحروبُ على ضوئها الشحيح، كان الدمُ الفلسطيني يَكتُبُ سيرةَ الأنبياء، ويمنحُ التاريخَ المُقَدَّسَ نفحةً من كرامةِ الشهداء الذين يصعدون إلى السماء، ويعودون أقلَّ إحباطًا.
لم يكن الشاب الشهيدُ الحيُّ إياد الحلّاق الأولَ ولن يكونَ الأخيرَ، فالمسلسلُ الصهيونيُّ ما زال مُخرجوهُ يبحثونَ عن ممثلين وضحايا وأدواتٍ ونصوصًا لم تُكتب إلا بالدَّم. ومع كلِّ رصاصةٍ قاتلةٍ، يتحرَّكُ النَّبيُّ إشعياء، ويصرخ قائلًا: "إن لم تُؤمِنوا فلا تأمنوا". ولا إيمان ولا أمان في بطون أولئكَ العابرين وقُطّاعِ الطُّرق الطارئين، فالظَّمَأ للأخلاقِ لا تبلُّهُ سوى أغادير الدماء التي تسبُحُ بها الكرامةُ، بينما (تشطُفُ) وَسَخَ القبائلِ التي أُريقَتْ مياهُ كرامتِها أمام نِعالِ الغُرَباء، ولكنَّ الصّحراءَ التي أنجبت عنترة العبسي تعرفُ أيضًا كيفَ تُنْجِبُ السّحالي والسَّعالى والخُنفساوات التي لا تنشطُ ذاكرتها إلا مع ستائر النسيان، فالعربُ العاربة والمستعربة والبائدة، والباقية جددت تحالفاتها مع بني النضير وبني قيناع وخيبر، و... وركنت سيوفها، واتجهت لنياقِها، تحتلِبُ وتحتَطِبُ، وراحَ الرجال يستبضعون، ويستجلبونَ النَّسلَ؛ علَّ ناقةً ولودًا تجعلهم يحتفلونَ بميلادِ نقيِّ النسب والحسب، أما وقدْ قامَ العُرْسُ في فلسطينَ، فإنَّ لهم في أعراسِها ما ليسَ لنا في نياقِهم. فالعريسُ الحيُّ ابنُ القدسِ يعتلي رِكابَهُ ويطوفُ على وَجَعِنا، وهو يرى أرواحَنا ترقص من شدَّةِ الأَلَمِ، ونصفِّقُ للشهيدِ بأيادٍ مكلومةٍ، وقد تفرَّقنا أياديَ سبَأ، ولم يأتِنا الملكُ بالخَبَرِ اليقين.
سقطُ القناعُ ولَم يسقط إياد، بل رفعه الله إليهِ شهيدًا حيًّا مليحَ الوجهِ واليدِ واللسان، حُرًّا مِنْ أذاهُ وأَناهُ، ليكونَ نحنُ في عليائه ومثواه، ناظرًا مِنْ عَلٍ إلى ضعْفِنا وجُبْنِنا، خالِعًا ثوبَ توحُّدِهِ الذي لم يشفع له بدقيقةٍ فائضةٍ من الوقت، لتفيضَ روحُهُ إلى بارئها راضيةً مرضيَّةً، تاركةً خلفها مجنَّدَةً تشهقُ بلُعبابِها الذي يندفُ من ريقٍ نزّاز، مُصوِّبَةً موتَها على باعةِ الطُّرُقِ، وَشُعراءِ الإسفلت، والحكّائين في زوايا الأرض التي تُظَلِّلُها خيمةٌ سماوية، وتحرسُها صرخاتُ الأمهات الثكالى، وأغنياتُ الوالداتِ العائداتِ من المشافي، حاملاتٍ أعيُنًا تبني لماضينا الطريقَ، ولا تنامُ على صدورٍ عامراتٍ باللبن الأبيض النَّقيِّ، يُغنّينَ ويُغنّون معهنَّ، ويصيرُ إيادُ الشابُ الطفلُ حاكورةً من زهرِ المدائن، وقِثّاءِ الأصبوحاتِ الفاتنات.
هو إياد( أيدودي) كما تناديه أمُّه، لم يستمع لصوتِ العرّافةِ، ولَم يُطوِّلْ مكوثه في القدس/ البيت، فاختارَ أن يمشي على دربِ المسيحِ، ولَم يكنْ يومًا غريبًا عن تُرابِ الأرضِ، فانتعَلَ الشقاءَ بِدَرْبِ آلامِ الحياةِ، وكانَ شبْهَ رسولِنا، هذا دمي، فلتشربوا، هذا الجسد، فلتأكلوا، ولتكتبوا سِفْرًا جديدًا، عندَ بابِ الجوزِ، عنْ روحِ النَّبيِّ إذا تناوشهُ الطيورُ، وكانَ يضحكُ مِنْ كثافَتِهم، فماتوا، والحياةُ لَهُ أتَتْهُ، وسجَّلوا في رأسِ صفحَتِنا النَّقيَّةِ يا إياد: أنتَ الشهادةُ والكرامةُ للتراب وللعبادِ وللبلاد.
إياد الحلاق، الوجهُ الحسنُ في زمن الوجوه التي عليها غبَرَة، إياد الحلاق، فارسٌ لم يترجَّل، بل راحَ يصهلُ في فيافي الأرواحِ الذاويات، وهو يبحثُ عن مُجيرٍ، يضربُ في الأرضِ، فيعيدهُ بعدَ أن تسقي له الهامة:" يا عمرُ إلا تدع شتمي ومنقصتي...أضربْكَ حتى تقولَ الهامةُ اسقوني" ولكنَّ القبيلةَ نائمةٌ يا إياد، ولن تشترك العشيرة في الجريرة، وأنتَ الطوّافُ المِلحاحُ على صمتنا، فاخرق السفينةَ ولنغرق جميعًا صامتين.