لم يكن اليوم الخامس بعيداً عن السابع من حزيران.. وكانت الحرب قد وضعت أوزارها منذ بدئها.. في ظل ممارسة عربية رهيبة العمق والأبعاد.. وحالة من الوعي الجديد مُتَوّجة بانطلاقة الثورة الفلسطينية وانطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" عام 1965.. حرب الستة أيام التي من وجهة نظري الشخصية استمرت لساعات فقط ثم وبدأت إسرائيل بالسيطرة على المناطق لترفع مساحة محتلة لم تتجاوز (13 ألف كم مربع) إلى حوالي (42 ألف كم مربع) مستحوذة على جزء بسيط من غرب الأردن وكذلك على مرتفعات الجولان وسيناء والضفة الغربية وقطاع غزة.. ليشهد العرب برمتهم انكسار ما زلنا نعيش تعاظمه حتى يومنا هذا.
في السابع من حزيران وفي قرية كفر جمال القريبة من خط الهدنة.. كانت الشمس تلوّح بقيضها الشديد فيما ترتفع رويداً رويداً لتستقر في كبد السماء معلنة تضامنها النهائي مع المحتل الزاحف للاستيلاء على بقايا الأرض.. وكأن هذه الشمس استمرأت هذا الظلم المتناثر.. أو أرادت أن تُلقّن المبعثرين درساً عبر شدة حرارتها.. ورفضها لانكسار أصحاب الحق المقصود أو اللامقصود..
في السابع من حزيران وفي الجهة الغربية من قرية كفر جمال استمعت "أمينة" لضجة غير مسبوقة.. وأصوات تتعالى من كل حدب وصوب بضرورة مغادرة المنازل والتوجه ل "البيادر الشّراقا".. احتضنت والدتي الغالية التي لم تتجاوز خمسة وعشرين عاماً في حينه اختي البكر "هناء" ذات الأربعة اعوام وأخي "هاني" ذو العامين.. وكذٰلك ضمت بطنها لها معلنة عن استشراسها في المحافظة على ما يحمل هذا البطن المبارك.. ورغم وجود آلام إلّا أنها أخذت بلملمة بعض الأغراض من هنا وهناك وعادت لاحتضان الجميع والمغادرة باتجاه "البيادر الشّراقا".. وفيما بدأت خطوتها الأولى خارج الباب الخارجي.. أخذت تتأمل.. ساحة لا بأس بها .. غرفتين متلاصقتين وشمالي المنزل مطبخ وحمام منفصل كل عن الآخر ومنفصلان عن الغرف أيضاً .. وجنوبي المنزل البئر المعروف بمائه العذب والذي اعتاد الكثيرون أن يأتوا لانتشال مائه والتمتع به.. وتلك هي الآلية التي تُشَيّد فيها المنازل في تلك الأيام .. فأطبقت باب المنزل وقامت بإغلاقه بالمفتاح الكبير وفي تلك اللحظة تدحرجت دمعة كبيرة انزلقت حتى بطنها وحرّكت حتى الجنين في أحشائها والذي بدأ بالتحرك أكثر وبدأت الأوجاع تتزايد...
كانت هي المسافة الأكثر ألماً التي قطعتها تلك السيدة العظيمة.. فحرارة الشمس الملتهبة تَنْقَضّ بقوة وشراسة محاولة حرْق كل الذكريات الجميلة التي يشعلها رأس الأم.. والصغار بحاجة لمن يقودهم.. والجنين في بطنها يستمر بحركاته اللامألوفة .. وهي تسير بخطىً ثابتة نحو مصيرها الذي سلّمته لله ومضت .. كان الألم يتصاعد والقوى تتضاءل في مواجهة هذا الألم .. وفي المنطقة القريبة من المسجد الذي يتوسّط القرية وبالتحديد بالقرب من سقيفة الفاضلة "نَصْرَة" .. بدأ المخاض وكانت "الحاجّة جميلة" قريبة من المكان وكانت زوجة أخيها "خديجة" (رحمها الله) قد جاءت مهرولة من بعيد وهي تحمل "بكجة" الطفل القادم أو الطفلة القادمة..
استجمعت "أمينة" قواها وهرعت برباطة جأشٍ وحيدة وطفلتها وطفلها لداخل "السقيفة" وكانت إرادة الله حاضرة كما الله حاضر في كل زمان ومكان.. إنه طفل يصرخ بكل قوة .. لكن الأم الرؤوم لن تضيع الوقت .. "فالخلاصة" عالقة .. وطلبت من "هناء" إحضار إبريق زيت بزاوية الغرفة وقامت بشربة منه فنزلت .. الخلاصة التي وضعتها الى جانب الطفل ولفّته ب "خرقة" ثم ضمته لها بقوة وحنان .. معلنة انتصارها الأبدي على العدو المحتل .. وغادرت مبتسمة رغم ألمها لكن مسرعة وحولها بعض جيرانها وأقاربها وابنتها وابنها باتجاه البيادر.
وصلت أمّي الحنونة ل "البيادر الشّراقا" مجهدة مرهقة .. وقد بدا وجهها شاحباً .. فالشمس مصرّة على ملاحقتها .. وبين يديها طفلها الذي تخشى عليه من الهلاك .. وابنتها وابنها .. إضافة لفقدانها لكمية لا بأس بها من الدماء .. وفي تلك الساحة تقدمت منها سيدة فاضلة مع الشكر والاحترام لها (قالت أمي "على ما أذكر هي ويا رب ما أكون غلطانة آمنة المصلح") وطلبت منها أن تلحق بها حيث قامت بقص "الصرّة"..
غريب جدّاً أن الاحتلال البغيض كان قد طلب من كل قرى المواجهة المغادرة.. لكن القرية الوحيدة التي أحضر لها "باصات" في تلك المنطقة هي قرية كفر جمال لإجبار أهلها على النزوح .. النزوح .. لقد بدأ البعض بمناداة هذا الطفل ب "النازح" .. وتم تفضيل والدته في صعود الباص رغم كون وجهه "شؤما" على القرية واهلها والوطن برمته .. حيث استجمعت الحنونة قواها وصعدت للباص وقامت بوضعه على رف الباص .. فبدأ هذا الطفل بسيمفونياته اللا محببة واللا مرغوبة بدأ بالصراخ والبكاء .. مما حدا بالبعض للقول (يا عمي الولد بدو يفقع أنا بقول حطوه في إحدى هالمطارح وخلوه بلاش يموت معنا، كما قال آخرون ارموه بلاش تشربوا حسرتو ) .. واستمر الحال لحين الوصول للمنطقة القريبة من "فصايل" .. في محيطها أو قريب منها .. وكان التعب والجوع والعطش قد نال من الجميع فجلسوا للأرض يلتحفون الحر.. وفي أرض قريبة مزروعة ب"الحرّوش" أحضروا قليلاً منه وبدأوا يأكلون في حين رفضت أمي تناوله لأن نفسها رفضت كلّ شيء في تلك اللحظات القاسية .. لكنها مضغت قطعة "شوكولاتة" ووضعتها في "شاشة" وبدأت تمصصها لطفلها حتى الوصول ل"الشريعة" وقد اضطرت للمسير قليلا في الماء فظهر الدم حولها واستمرّت حتى قطعت "الشريعة" وصارت على الطرف الشرقي من النهر...
كان الشهيد "راقي أبو شيخة" مثالا للشهامة والمروءة أحد ضباط الشرطة الأردنية وهو من أبناء كفر جمال.. وقد احتضن أهل القرية وكان قد وفّر "الباصات" لنقل أهل بلده لمدارس في عمّان ..
خلال الرحلة من كفر جمال حتى عمّان دار حديث بين أمي الطيبة وعمّي "سعيد العيسى أبو عيسى" حول اسمي.. وقد رفض عمي اقتراح أي اسم لأنه منذ سنوات قليلة رزقت أمي بطفل وسماه عمي "أسامه" لكنه تُوُفّي بمشيئة من الله.. والآن هو لا يريد جلب "الفال العاطل" .. لكن الوالدة العزيزة .. احتراماً وتقديراً لكبير العيلة عمي "أبو عيسى" ولأنه لم يرزق بأبناء فقد أصرّت وعقدت العزم على تسميتي "أسامه" إرضاءً للعم رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان.
كان والدي حفظه ربي ورعاه يعمل في الكويت منذ أواخر الخمسينات .. وكان يأتي لكفر جمال كل عام أو عامين بعد زواجه "لقمة مغمّسة بالدم" .. وقد كان موجوداً في عمّان بانتظار عائلته حيث سافر بها للكويت.
كم من الحب حملت يا أماه في تلافيفك لهذا العالم .. وكم من الألم والحشرجات والآهات صرخت بها أحشاؤك .. كم صبراً صبرت .. كم مرة جبتي العالم خلال مئات المترات التي قطعتيها من منزلك لل"البيادر الشّراقا" ولعشرات الكيلومترات من البيادر حتى نهر الأردن ثم عمّان فالكويت لتعلني أمومتك المسلوبة أمام جحافل الظلم والاضطهاد والعنصرية والنازية الاحتلالية الصهيونية بأبشع صورها .. كم وردة زرعت على الطريق وكم طفلة وطفل فقدت "أسامه" "سناء" "كوثر" .. وظلّت ابتسامتك تعلو جبينك الشاهق الشامخ المحلّق نحو جنان الله ليزرع فيها مزيدا من الحب الأُمومِيْ العظيم .. وما زالت برتقالة في الدار تسأل عنك وعن المجد والثوار .. كم مرة أغضبتك يا سيدة الحلم المتأصّل بي زيتونة رومية أصلها ثابت وفرعها في السماء .. كم مرّة تناكفنا فصرخت بحنان "ولك أنت لو بتستحي ع دمك وع قد ما اتْغَلّبِتْ فيك بتجيب غسّان كنفاني يكتب قصتي".. فحتى أمي تعرف غسان كنفاني.. لكن يا أمي إن غسّان قد رحل ولم يلتقيك ولم يعرفك وإن كان يعرف كل أمهات فلسطين بما فيهم أنت عظيمتي .. رحل جسداً وبقي فكراً .. وها أنا ذا أكتب لك نيابة عنه وعني وإن كانت كتابتي لا تُكَيّل بحرف من حروف كنفاني إلا أنني أحاول كما علمتيني أن أحاول.. وكذلك وأنا أحاول فإني أستحضر كل لحظاتك منذ نزوحك تحتضنين النازح الصغير مرورا بضحكاتك ودمعاتك على طول السنين والأيام المرة والحلوة في الكويت ثم استقرارك بعد تعب طويل من المشقة في منزل متواضع في عمّان ..
وخلال هذه الرحلة يا سيدتي المعمّدة بترانيم الحب والشوق للأراضي المحتلة .. وكذٰلك معانتك الطويلة معي والتي لم تنته بولادتي .. من دراستي بالولايات المتحدة حتى اختفائي وأنباء استشهادي في لبنان ورحلة العذاب لك ولوالدي وأنا في السجون السورية وإطلاق سراحي ثم ملاحقتي وطردي للجزائر ومرارة ما حدث لي في فلسطين .. فإني أتوقف عند كل دمعة كنت أنا سببها وكذٰلك تربيتك لي على هذا النهج وهذا الطريق سبب .. وأتفحصها وأتألم لها .. وإذا كانت لا تكفيك المحبة والشهامة والشجاعة والمروءة والصدق التي زرعتيها بي .. فلا شيء أستطيع تقديمه لك يا أماه سوى حبي وانحناءة عند قدميك الطاهرتين أقبلهما بعمق وأنظر للجنة تحتهما.
قالت أمي وأنا أذكر ذٰلك تماما وكنت منذ أيام أحدث أحد أصدقائي عنه.. قالت أمي خلال مكالمتها معي اليوم:- "قاعدة بتفرج عاللي بيصير معك يمّا .. واتذكرت أول نزلة إلنا ع فلسطين وبقى عمرك يا ستة يا سبعة .. وإحنا عالجسر اتفرجت عاليهود وقلتلي مين هذول يما .. قلتلك هذول اللي احتلّوا فلسطين هذول اللي طردونا ومنعونا نرجع .. قمت شديت حالك واطلعت عالكرسي ورفعت إيدك وصرت تغني:-
ع كتافي رشاشي.. وبدي اظلني ماشي .. أرضنا المحتلة .. ما بترجع ببلاشي
و
فدائية فدائية .. ثورة ثورة شعبية
وكمت زكطتك وسكرت ثمك .. وبتعرف يمّا يا ريتني ما سكرت ثمك يومها
روح يا أسامة الله يرضى عليك رضا ربي ورضا قلبي".
(أبو عرب 06/06/2017).